المواطنية عند الفينيقيين
سامي أبي خليل
المواطنية والتربية المدنية عند الفينيقيين لها ركائزها ومبادئها كما في كل المجتمعات. كانت عفوية، عائلية، مَلكية، دينية. ليست هرمية أو متسلسلة عند المواطنين بالمبدأ. هي منفتحة على التبادل العالمي الحر خارج نطاق الحروب والاستعباد، لكن تحت سقف الثالوث المقدّس الفينيقي.
لم يكن لدى الفينيقيين حكومة مركزية، لكن كانت تعمل كاتحادات ممالك- مدن مستقلة متعاونة كالفيديرالية.
جبيل، المدينة المقدسة، موضع تبجيل طويل وشبه عالمي، حيث اكتسبت معناها العقائد والتطوّر والشراكات الإلهية مع مصر والمحيط الكنعاني. صيدا المزدهرة، صور الحيوية والمغامرة والتوسعية وأرواد الهادئة، التي سكنها فرسان المعبد الفرنسيين مدة طويلة.
الآلهة كانت كناية عن عائلة مقدسة وراثية. الإله الإنسان الشاب أدونيس عاشق عشتروت، هو ابن الاله إيل، "خالق السماء والأرض" والإله الأعلى، وزوجته الإلهة عشيره وهم على رأس الثالوث المقدس في جبيل الفينيقيّة. يترجم أدونيس "رب أو سيد" باللغة السامية والذي كان يمثل الربيع وانبعاث الطبيعة، وهو رمز الحب المثالي والعاطفي، الذي اتُخذ مثالاً في الزواج وفي العائلات عموماً.
الإله الأعلى عند الفينيقيين مباشرة بعد الإله إيل هو بلا شك حضاري مثل أشمون. إنه أيضًا ملاح مقدام، ومحارب لا يعرف الخوف، إنه الشمس، ولكن قبل كل شيء الشمس باعتبارها نارًا واهبة للحياة، شافية ومدمرة في نفس الوقت، ولكنها دائمًا منتصرة بالقوة الإلاهية وليس بالحرب.
وهذا يمنحه هالة مهمة بقدر مقدار الضرائب التي يجب التضحية بها أمام مذبحه وتقديمها للشعب أو لجباية الضرائب التي تحصل عبر المعابد وإداراتها لممالك الشتات الفينيقي.
الجدير بالذكر، انه قبل أن يصبحوا ملاحين وتجّارًا، كان الفينيقيون مزارعين بريعين وحرفيين ماهرين. خلقوا عملة لهم وشجرة النخيل تظهر غالباً على العملات المعدنية المتداولة في المهجرو صيدا وصور وعلى العملات القرطاجية التي يتوجها غالباً الحصان.
لقد تم تعريف المواطنة على أساس معايير وراثية عائلية فينيقية ومَلكية وكذلك على أساس الجدارة والكفاءة الغير مرتبطة بالأصل حتمياً في إدارة الممالك التابعة، والسفن، والعمليات الزراعية، والمناجم. والعائلة تشمل الأحفاد والأسلاف. و الفينيقي لم يكن بالضرورة ينحدر من عائلات فينيقية بل بالتبني من بلدان وجودهم، أو بالزواج أو تحالف العمل، أو لبراعته في القوارب أو الحرف اليدوية وغيرها من المهن.
وهذا ما خلق لهم المشاكل مع الشعوب الأخرى مثل الرومان الذين اعتبروها بمثابة تحرير مجاني للعبيد، وهذا ما كان على الأرجح أحد أسباب الحروب البونيقية.
على مثال أدونيس، رب العائلة هو الأب، كان محترماً من عائلته كالإله. تليه الأم ولها احترام الجميع والثالث في هذه الثلاثية المقدسة هو الكاهن الفينيقي الذي كان احترامه من قبل المجموعة كفرد من العائلة أو ككبير السن في القرية الذي يحل مكان الكاهن عند غيابه وكان كنية للشيخ او المختار والإداري والعاقل المستشار لحل مشاكل الناس وخدمتهم بكل بساطة كما في لبناننا القديم. لكاهن المعبد الأقرب كانت تدفع الرسوم لللإدارة الروحية والاجتماعية والاقتصادية. و الكتيب المعروف باسم "حسابات معبد عشتروت" في قبرص يثبت كوثيقة محاسبية منبثقة من الإدارة الملكية لكيتيون الذي يوضح أن كل مدينة/دولة-مدينة كان لديها نظام إداري ومحاسبي مماثل، والذي يسمح لنا بتعميمه كنظام فينيقي مَلكي.
علاقات متينة كانت تربط الفراعنة والفينيقيين من خلال نصوص منوطة وكذلك مع مملكة ماري، كما يتضح من سجلات هذه المدينة الواقعة في وادي الفرات وذلك على عهد زمري ليم (١٧٧٥-١٧٦١ ق.م).
الركيزة الاولى إذاً، هي عائلية على مثال الآلهة.
كونية التفكير، فلكية العلم للملاحة والبحار، وسماوية الديانة تؤمن بالإله الأعلى، والاهم إنسانية التعامل مع الآخر وللتبادل مع شعوب الغير.
وكان لدى الفينيقيين حسّ التضحية للدفاع عن قيمهم وآلهتهم وأسلوب حياتهم، كما يتضح من مقاومتهم للإسكندر الأكبر.
ابتكر الفينيقيون طرقًا جديدة للتواصل منها المقايضة والأبجدية مع الشعوب الأخرى.
هناك مفاهيم لا يمكن تجاهل سموها أو نقائها الأخلاقي عندما نقرأ الأساطير الفينيقية أو الكتاب المقدس عنهم.
كان الفينيقيون يقدمون الثمار الإلهية، وأوائل الحصاد، والكعك، والحليب. حددت تعريفة صارمة للرسوم الذي كان يجب دفعها للكاهن عن كل نوع من أنواع التضحيات وهي غير بشرية.
عندما تقدم عائلة المولود الأول قربانًا لإله، فمن الضروري أن نفهم في الأسرة التي تعبد أبنائها كإله، أنها تقدم او تخسر أغلى ما لديهم أو تضحي به مدى الحياة لخدمة الهيكل ككاهن وليس قتله. والأمر نفسه ينطبق على تقدمة الثمار الناضجة الأولى للهيكل لاستخراج البذور وتخزينها للموسم المقبل.
وقد تطورت ديانتهم على نمط عاداتهم وهجراتهم وتعاونهم واتصالهم بشعوب أفريقيا والغرب وتكيفوا مع أسلوبهم في إدارة واقعية للمجتمع. وقد أسسوا وقادوا نظامًا عالميًا للتبادل على مستوى البحر الأبيض المتوسط وأثاروا غِيرة هائلة ولم يلتزموا الانجرار بالعنف باستثناء قوس قرطاجة التاريخي الذي تحول من عدو إلى تابع وآخرين من صديق إلى تابع للرومان.
وها عالمنا اليوم على نفس مفترق طرق الخيار نحو نظام عالمي أكثر عنفاً بدل الأكثر تعاوناً.
نبض