كلمة تكاد تُحدِث فتنة
انشغل اللبنانيون خلال فترة الأعياد وما قبلها بإبداء حبهم لبعضهم بعضاً، مسلمون ومسيحيون احتفلوا بعيد ميلاد السيد المسيح، كلّ بحسب رؤية معتقده إلى ماهية المسيح. منهم من بقي في العموميات، ومنهم من دخل إلى التفاصيل، وفي التفاصيل تكمن التناقضات.
كان الجميع فرحين بأشجار الميلاد، وبالأسواق الميلادية (معظم الأسواق ذات طابع استثماري تجاري)، وبالقرى الميلادية التي لم تخل مدينة أو قرية منها تقريباً. وكان رواد الأسواق والقرى مسلمين ومسيحيين على حدّ سواء، وبات وجود المسلمين في الأجواء الميلادية موضع تندّر لطيف لم يتخطّ حدود الظرافة والنكتة، كأنْ يطلب إلى المسلمين مثلاً فسح المجال للمسيحيين ليتصوروا قرب شجرة الميلاد في جبيل أو في البترون أو في وسط بيروت.
ظل التعايش قائماً على وسائل التواصل الاجتماعي حتى نشر أحد المعلّمين في مدرسة طرابلسية فيديو لطفلة من عائلة مسلمة، تقول فيه إنها لا تحتفل بـ"الكريسماس"، لأنه عيد للكفار، فانقلب التعايش فجأة إلى حرب استخدمت فيها كل مفردات التكفير والشيطنة، واختفى الحب لتظهر الكراهية، مهما حاول كثر تجميل تدخّلاتهم، وظهرت تفاعلات، مسيحية وإسلامية من دول مجاورة مثل الأردن وسوريا والعراق.
كان نشر الفيديو تلفزيونياً الشرارة التي أطلقت موجة "الحب"، وهو ما يطرح قضية المسؤولية الاجتماعية للإعلام على بساط البحث الجدّي، وتحديداً في بلد تُعتبر فيه الكلمة أشد قتلاً من السيف!
بضع كلمات من طفلة لا تعرف معنى الكفر والكفار، لُقّنتها في حصة تعليم ديني، ثم قام معلّم أرعن بتصويرها ونشرها متباهياً بنصرته دينه، أقامت الدنيا ولم تقعدها على مواقع التواصل؛ وللإنصاف تنبغي الإشارة إلى أن مقابل الكلام الطائفي من هنا وهناك كانت هناك أيضاً أصوات عالجت الموضوع بهدوء وعقلانية.
كأن بعض اللبنانيين اكتشفوا فجأة أنهم مختلفون دينياً، وكأنهم كانوا ينتظرون فيديو الطفلة ليكتشفوا أن الأديان، ولا سيما المسمّاة سماوية، هي بطبيعتها لا تعترف بالآخر أو تكفّره. كلّهم يعرفون ذلك، ويمارسونه في حياتهم اليومية، وقد تقبّل بعضهم هذا الاختلاف، معتبرين أن هذا أمر لا يد لهم فيه؛ فالإنسان عموماً لا يختار دينه بل يولد في بيئة وعائلة تتبعان ديناً معيناً، فيعتنقه، وتقوم المؤسسة الدينية بترسيخه نهائياً. في هذا واقع لن يستطيع أحد تغييره في النصوص الدينية، ولا في الموروث المتراكم عبر مئات السنين. المجال الوحيد الممكن التغيير فيه هو الفهم والسلوك. فهم مقاصد الدين الكبرى، والتفسير العقلي والإنساني المعاصر للنصوص، وتقديم الجوانب الإيجابية تجاه الآخر المختلف في إيمانه وعقيدته، وهي موجودة.
ذهب البعض إلى حد المطالبة بالانفصال معتبراً أن التعايش مستحيل بين متناقضات، وأن اعتبار الآخر كافراً هو دعوة إلى القتل، في مقابل اعتبار البعض الآخر أن التعايش مع "الكفار" هو أمر يناقض الإيمان والدين. بلمحة عين بات الدين ألعوبة بيد من يعلمون ومن لا يعلمون.
ليس الأمر تفصيلاً بسيطاً في بلد يعيش مخاضاَ معقداً في ولادة جديدة متعثرة، فكمية الضخّ في الإعلام، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، تعكس حالة غير صحية على الإطلاق. ليست الإجراءات التربوية والقضائية كافية لتطويق التداعيات التي لا تلغيها كل المساعي التوفيقية، ولا المشاركة الواسعة للمسلمين في الفرح بعيد الميلاد؛ وهي مشاركة فولكلورية، في أغلب الأوقات، ولا تندرج دائماً في سياقات إيمانية وروحية صافية. هذا واقع لا بدّ من توصيفه كما هو بلا تجميل ولا مواربة.
لا شك في أن النظام الطائفي هو المسؤول الأول عن مثل هذه النزعات، في بلد يعجز زعماؤه ومسؤولوه عن التخلص من عصبياتهم الطائفية والمذهبية، بل يعتبرونها الوسيلة الوحيدة للاحتفاظ بسيطرتهم وامتيازاتهم والإمساك بخناق أتباع طوائفهم، وستبقى جملة من هنا أو هناك قادرة على إشعال فتنة.
لقد تخلصت أوروبا المسيحية المنقسمة بين كاثوليك وبروتستانت من سيطرة رجال الدين وزعماؤه على الحياة العامة، وأقامت نظاماً علمانياً يبعد الدين عن الحكم والمدرسة والجامعة. لكن الأمر في لبنان وبعض دول المشرق أكثر تعقيداً بسبب التنوع الأوسع، الإسلامي والمسيحي، والميل الواضح إلى العصبية الطائفية حتى على حساب الالتزام الديني، إذ ليس كلّ المتعصّبين ملتزمون دينياً.
النظام الطائفي هو السبب الأول للنعرات الطائفية والمذهبية، والحلّ يبدأ من المدرسة، والمدرسة بحث آخر لوحده، وهذا يحتاج وقتاً وعقولاً مستنيرة... وإلى أن تظهر هذه العقول في مستويات القيادة العليا ستبقى كلمة واحدة قادرة على تعكير صفو بلد برمته.
نبض