مها الجمل*

نصف الكرة الأرضية في غربها، في القرن التاسع عشر، أعلن عن مبدأ "مونرو" بهدف منع أيّ تدخل أوروبي في شؤون القارة الأميركية والابتعاد قدر الإمكان عن صراعات الدول الأوروبية آنذاك. الآن، بعد نحو قرنين من الزمان، بات نصف الكرة الغربي على رأس أولويات الرئاسة الأميركية، حين ظل "مونرو" لصيق السياسة الأميركية، ولم تستطع الإدارات المتعاقبة فك ارتباطها به.

التنافس العقائدي والاستراتيجي بين موسكو وواشنطن، وبين واشنطن والصين، سرٌ لصيقٌ في صراع العناصر الأرضية النادرة.

معظم تلك العناصر متوافرة بكثرة في الطبيعة، لكنها نادرة لوجودها في صورتها النقية وخطورة استخراجها. قد لا تُعرف أسماؤها بسهولة مثل الإتيربيوم، والثوليوم، واللانثانوم، والأوروبيوم، والإيتريوم؛ وهي تستخدم في صناعة شاشات التلفزيون والكمبيوتر، والنيوديميوم المستخدم من أول صناعة الأقراص الصلبة لأجهزة الكمبيوتر إلى محركات الطائرات النفاثة، والغادلينيوم، والديسبروسيوم، والبراسيموديميوم، وغيرها التي تدخل في صناعة الصواريخ والأقمار الصناعية والأسلحة، ضمن حوالي سبعة عشر عنصراً نادراً في الأرض. تحتكر الصين بشكل شبه كامل تقريباً استخراج العناصر الأرضية النادرة وتكريرها، وهي تلك العملية الصعبة في المعادن النادرة، تساهم بكين بأكثر من 60% من إنتاج العناصر النادرة و أكثر من 90% من معالجتها في تقديرات لوكالة الطاقة الدولية.

صراع عالمي على المعادن النادرة

الولايات المتحدة ترى أنها غير قادرة على معالجة المعادن الأرضية النادرة الثقيلة خارج منظومة بكين، ولم يعد مبدأ "مونرو" في صيغته المعاصرة، مرتبطاً فقط بالجغرافيا، بل بات مرتبطاً بسلاسل الإمداد، وأمن الطاقة، والمعادن الاستراتيجية، ومنع الخصوم من ترسيخ نفوذ اقتصادي أو عسكري في مناطق تعتبرها واشنطن امتداداً لأمنها.

ألمحت السياسة الأميركية الجديدة إلى النفوذ الأميركي وسيلة لمنع بكين من الوصول إلى موارد مثل المنشآت العسكرية والمعادن الحيوية، ضمن منطقة لا زالت مشتعلة ومتشابكة ، وأجرت صفقات مع شركات جزءاً من تحركات ترامب لزيادة الإنتاج المحلي من الليثيوم والمعادن الأرضية النادرة وغيرها من المعادن المستخدمة في الدفاع، وتقليل الاعتماد على الصين التي استخدمت قوتها المعدنية ورقة ضغط في المفاوضات التجارية.

أعالي البحار والنفط

دولة في نصف الكرة الغربي تمتلك النفط ومعادن نادرة، وترتبط بعلاقات وثيقة مع خصوم الولايات المتحدة، مثل الصين وروسيا. تواجه حكومة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو عقوبات أميركية صارمة، وقد وقّعت اتفاقيات طاقة وتعدين مع الصين، ومع إيران وروسيا، أبرز خصوم الولايات المتحدة ، في تعدد الأقطاب.

تقع فنزويلا على الساحل الشمالي لقارة أميركا الجنوبية وعلى البحر الكاريبي، أحد أكثر المسطحات المائية حساسية للولايات المتحدة تاريخياً. فمنذ القرن التاسع عشر، اعتُبر الكاريبي امتداداً للأمن الأميركي، وعززت نفوذها فيه، وهو ما يجعل أي وجود لقوى منافسة فيه يُقرأ بحسبها بوصفه اختراقاً لمبدأ مونرو. وامتلاك فنزويلا لأكبر احتياطيات نفطية مؤكدة في العالم جعلها لاعباً استراتيجياً حتى في لحظات ضعف داخلياً واقتصادياً، ونقلتها تحالفاتها إلى خانة “التحدي الجيوسياسي".

أعلن مادورو أن واشنطن تريد نفط فنزويلا، الذي تبيعه حالياً في الغالب إلى الصين، وعد ورقة ضغط قيّمة لمادورو في تعاملاته مع ترامب، الداعم لصناعة الوقود الأحفوري. هنا، لم تعد واشنطن تتعامل مع فنزويلا فقط عبر العقوبات أو الضغوط الديبلوماسية، بل عبر البحر نفسه، وباتت فنزويلا تحت إمرة حصار بالكامل "بأكبر أسطول بحري  جُمع في تاريخ أميركا الجنوبية"، كما أعلن الرئيس الأميركي، حيث أمر بفرض حصار بحري على ناقلات النفط الخاضعة للعقوبات المتجهة إلى فنزويلا أو الخارجة منها، وعسكرة متزايدة للكاريبي، وتهديدات بالضربات في فنزويلا وفي البلدان الأخرى التي تعمل فيها عصابات المخدرات وهو المبرر الذي تقول واشنطن إنها تتحرك لأجله، أدى إلى زيادة المخاوف في منطقة شاركت فيها واشنطن بتاريخ مضطرب من التدخلات العسكرية.

اليمن والمعادن النادرة في قلب الممرات

على ساحل بحر قريب، تمعدنات هامة للعناصر الأرضية النادرة في صخور الكربونتايت والبجمتايت ضمن صخور الأساس (ما قبل الكامبري)، من تنتاليوم وسيزيوم و نيوبيوم  في صعدة و شبوه وأبين وغيرها، في اليمن الذي يطل على واحد من أهم الممرات البحرية باب المندب والبحر الأحمر، حيث تمر نسبة كبيرة من التجارة العالمية والطاقة وسلاسل الإمداد بين آسيا وأوروبا وأفريقيا.

أخيراً، أعلنت هيئة المساحة الجيولوجية والثروات المعدنية في حضرموت، عن اكتشاف معدن الإسكانديوم النادر من المعادن المستخدمة في صناعات الطائرات والمركبات الفضائية، في محافظة حضرموت وتلك التي تعرضت لاضطرابات وتصعيد عسكري من المجلس الانتقالي الجنوبي.

ورغم أن اليمن لا يقع ضمن النطاق الجغرافي لمبدأ "مونرو"، إلا أن منطق تمدد الوصول إلى الموارد والممرات البحرية، قد يمتد إليه بصورة غير مباشرة، في بلد تتجاذبه الصراعات والبنية التحتية المدمرة ومخاطر الملاحة الدولية.

باتت الموارد النادرة والنفط والبحار أدوات نفوذ، تشكل خرائط صراع جديدة، تتحول الدول الغنية بالموارد، والهشة سياسياً واقتصادياً، إلى ساحات اختبار للقوى الكبرى، في سباق العناصر النادرة.

^{*باحثة مصرية متخصصة في شؤون الشرق الأوسط}

-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.