أزمة الجامعة اللبنانية والديموغرافيا المختلة!

كتاب النهار 19-12-2025 | 04:45

أزمة الجامعة اللبنانية والديموغرافيا المختلة!

مع كل عملية تعيين، تبرز المشكلة بين المسلمين والمسيحيين، وبين مذاهب كلّ من الطائفتين، فتفرغ الإدارات، ويهاجر أصحاب الكفاءات، وقد يموت مرشحون إلى الوظائف قبل أن يتفق الساسيون الطائفيون والمرجعيات الروحية على حصة كل طرف من الجبنة والمقايضات في الكواليس. 
أزمة الجامعة اللبنانية والديموغرافيا المختلة!
اعتصام للأساتذة المتعاقدين بالساعة طلباً للتفرغ
Smaller Bigger

تطرح المشكلة القائمة على تفريغ أساتذة في الجامعة اللبنانية أزمة الكيان اللبناني برمته؛ فهي ليست مجرد مشكلة تربوية منفردة عابرة، بل تعبير صارخ عن استعصاء التوافق السياسي والطائفي على أي شيء تقريباً. ليس هناك بلد في العالم أكثر تعقيداً من لبنان، وأكثر ابتلاء بأمراض السياسة السرطانية. بلد نسيج وحده، رغم بعض المشتركات مع بعض البلدان القريبة و"الشقيقة".


ليست الجامعة اللبنانية بخير، وهي الجامعة الرسمية الوحيدة في البلد التي تؤمن التعليم المجاني لجميع اللبنانيين في كليات ومعاهد منتشرة في عموم مناطق البلد. والقول إنها ليست بخير لا يتناقض مع تصنيفها المتقدم بين الجامعات اللبنانية، وفق أكثر من مؤشر عالمي لتصنيف الجامعات؛ وهو تصنيف يعود الفضل فيه لكفوئين ومخلصين فيها من إداريين وأساتذة، وبالتأكيد لنخبة من الطلاب المتفوقين. ولو كانت بخير لوجب أن تكون في طليعة أهم الجامعات العربية والعالمية، وقد كانت يوماً ما مرجعاً علمياً مرموقاً على مستوى العالم، وكان طلابها يقبلون في الدراسات العليا في جامعات العالم الراقية من دون اختبارات دخول بناء على الثقة الكبيرة بشهاداتها. وليس أهل الجامعة مسؤولين عن ذلك، فالقضية أكبر منهم بكثير، بتشعّباتها السياسية والطائفية والمناطقية.


دخلت الجامعة في البازار السياسي والطائفي منذ طيّف النظام والمجتمع بشكل شبه كامل. لم تعد كياناً وطنياً يتمتع باستقلالية تعصمه عن التدخلات السياسية. أصبحت خاضعة لمجلس الوزراء، الذي نزع من رئيسها ومجلسها صلاحيات التفريغ والتعيين، وجلبها مخفورة إلى سوق المبازرة والمحاصصة الطائفية والحزبية على طاولته.


تؤكد مشكلة التفريغ القائمة حالياً المؤكد، الذي يتكرر كلّ عقد من الزمان تقريباً. تفرغ الجامعة من أساتذتها المثبتين في ملاكها أو المتفرغين فيها، فتلجأ إلى التعاقد بالساعة مع أساتذة جدد لسدّ الفراغ، مع ما يرافق ذلك من خلل ومن تدخّلات سياسية وروحية وحزبية، ثمّ ترتفع المطالبة بالتفريغ ليصطدم الملف بالجدار الطائفي والحزبي (والحزبي طائفي ومذهبي)؛ هذا إذا وضعنا جانباً الاعتبارات الأكاديمية والمهنية ومستوى الشهادات وأهلية حامليها للتدريس.


الملف المقدم حالياً للتفرغ يضم 1283 مرشحاً، بعضهم أمضى أكثر من عشر سنوات في التدريس في الجامعة، وبعضهم مستجدّ، وقد استوفوا جميعهم - وفق ما تقول الجامعة - الشروط المطلوبة للتفرغ. لكن الملف رفع من رئاسة الجامعة إلى وزيرة التربية، إلى مجلس الوزراء، قبل التوافق عليه في الغرف الجانبية، وقبل دخوله إلى مجلس الوزراء للتوقيع عليه، كما يحصل مع كل الملفات في البلد.


رفع رئيس الجامعة الملف كما هو رافعاً عن نفسه المسؤولية تجاه الأساتذة. ولم تساعد خبرة وزيرة التربية المحدودة في الزواريب اللبنانية في التروي قبل طرح الموضوع في مجلس الوزراء، وربما لم تقدر حجم الاعتراض، الذي سيواجهه، أو لعلها أرادت أيضاً القول "عملت واجبي". 


اصطدم الملف بالجدار، وعاد إلى حيث تريد الطوائف أن يعود. انفجر اللغم الأول: الملف غير متوازن طائفياً، فالمسيحيون يمثلون 29 في المئة فقط من مجموع المرشّحين. قامت قيامة مؤسّساتهم الروحية، وأحزابهم، طلباً للتوازن والمناصفة، ثم انفجر اللغم الثاني مذهبياً بين المسلمين أنفسهم. الشيعة أكثر من 500 مرشح بزيادة كبيرة تقارب المئتي مرشح عن السنة، وهو ما أثار اعتراضاً روحياً وسياسياً سنياً، ولو متأخّراً، طلباً للتوازن أيضاً. ولو كان الأمر معكوساً وكانت الأكثرية من غير الشيعة لما رضوا بغير حصتهم كاملة لا تنقص عن غيرها مرشحاً واحداً.

 

هكذا يحصل دائماً في ملفات التوظيف في الإدارة البنانية، رغم أن الدستور اللبناني لا ينص على مناصفة أو مثالثة أو على أي شكل من أشكال التقاسم في الوظيفة العمومية، إلا في وظائف الفئة الأولى. لكن التدريس الجامعي ليس وظيفة فئة أولى. لكن في بلد يغلب فيه العرف على الدستور، وتعلو الطوائف فوق القانون، يصبح كل شيء خاضعاً لبازار التقاسم حتى لو كانت الوظيفة ناطور أحراج، وهو أمر حصل سابقاً.


تطرح المشكلة أيضاً مستقبل الإدارة برمتها في لبنان؛ فمع كل عملية تعيين تبرز المشكلة، بين المسلمين والمسيحيين، وبين مذاهب كل من الطائفتين، فتفرغ الإدارات، ويهاجر أصحاب الكفاءات، وقد يموت مرشحون إلى الوظائف قبل أن يتفق السياسيون الطائفيون والمرجعيات الروحية على حصة كل طرف من الجبنة والمقايضات في الكواليس. 


تفعل الديموغرافيا فعلها في هذا البلد، ويزيد اختلال التوازن في أعداد أبناء الطوائف اللبنانية من تعقيدات الأزمات المتناسلة. تتناقص نسب المسيحيين بشكل مطرد، وتتزايد نسب المسلمين سنة وشيعة بشكل مطرد أيضاً، بفعل عوامل متعددة، ثقافية واجتماعية واقتصادية، وسيأتي اليوم الذي سيجد الجميع أنفسهم أمام السؤال الكبير: هل ما زالت المناصفة في الوظائف خياراً قابلاً للتطبيق؟ وإذا كان الجواب لا، فما البديل؟ والأرجح أن الطبقة السياسية القائمة عاجزة عن الإجابة.


 


الأكثر قراءة

اقتصاد وأعمال 12/19/2025 7:25:00 PM
سلام: مشروع القانون الهادف إلى استرداد الودائع اعتمد معايير دولية وسيعيد الثقة الدولية بلبنان...
سياسة 12/18/2025 3:34:00 PM
إعلام عبري: روي أمهز تفاصيل عن "إحدى أكثر مبادرات حزب الله سرية وتمويلاً، وهو مشروع استراتيجي وإبداعي وطموح أُطلق عليه اسم "الملف البحري السري"