قراءة في مذكرات الديبلوماسيين الخليجيين: كتاب السفير سليمان سالم الفصام نموذجاً

كتاب النهار 16-12-2025 | 04:25

قراءة في مذكرات الديبلوماسيين الخليجيين: كتاب السفير سليمان سالم الفصام نموذجاً

تشجيع السفراء السابقين على كتابة مذكراتهم، وقراءة هذه الأعمال بوعي نقدي، هو جزء من بناء الذاكرة الوطنية، ومن صيانة الخبرة التي لا تُقدّر بثمن. وكتاب السفير سليمان سالم الفصام يندرج في هذا الإطار، بوصفه شهادة صادقة على زمن عربي مضطرب، وتجربة كويتية جديرة بأن تُروى وتُقرأ.
قراءة في مذكرات الديبلوماسيين الخليجيين: كتاب السفير سليمان سالم الفصام نموذجاً
الشيخ راشد آل مكتوم مع السفير الفصام في دبي
Smaller Bigger

ليست كتابة المذكرات ترفاً شخصياً، ولا هي مجرد استعادة للذكريات، بل هي في جوهرها فعل وعي تاريخي، ومحاولة لتدوين الخبرة قبل أن تتبدّد، وحفظ الذاكرة المؤسّسية قبل أن يطويها النسيان.

 

تزداد أهمية هذا الفعل حين يكون الكاتب ديبلوماسياً عمل في محطات متعددة، وشهد تحولات سياسية كبرى، وشارك –من موقعه – في بناء صورة الدولة ومصالحها في الخارج. من هنا، تكتسب مذكرات السفراء، خصوصاً في دول الخليج، قيمة مضاعفة، لأنها توثق تجربة حديثة نسبياً لدول دخلت ميدان العمل الديبلوماسي في عالم شديد التعقيد.

في هذا السياق يأتي كتاب السفير سليمان سالم الفصام "أربعون عاماً: رحلة مع قافلة الديبلوماسية" بوصفه إضافة مهمة إلى مكتبة المذكرات الديبلوماسية الخليجية. فالكتاب لا يكتفي بسرد المسار الوظيفي لصاحبه، بل يفتح نافذة على مراحل مفصلية في تاريخ المنطقة، وعلى كيفية تشكل الأداء الديبلوماسي الكويتي في بيئات سياسية متباينة.

لقد عُرف عن عدد من سفراء الخليج حرصهم على التدوين، وإن تفاوتت لغات الكتابة ومقارباتها. كتب عيسى القرق مذكراته بالإنكليزية عن تجربته سفيراً لدولة الإمارات في لندن، بينما كتب بالعربية سفراء كويتيون بارزون، مثل بدر الخالد، وعبدالله بشارة، والسفير نبيل الملا، كما صدرت مذكّرات لعدد من سفراء المملكة العربية السعودية. لكن القاسم المشترك بين هذه الأعمال جميعاً هو إدراك أصحابها أن التجربة الديبلوماسية لا تكتمل إلا إذا تحولت إلى معرفة مكتوبة متاحة للأجيال اللاحقة.

يمتاز كتاب السفير الفصام بتنوع محطاته. فقد بدأ عمله في سفارة الكويت في واشنطن، ثم انتقل إلى جدة، ثم عمل قنصلاً عاماً في دبي والإمارات الشمالية في مرحلة التأسيس الأولى لدولة الإمارات العربية المتحدة، قبل أن يتولى منصب السفير في عدن خلال ثمانينيات القرن الماضي، حين كانت اليمن الجنوبية دولة اشتراكية، ذات قيادة مضطربة، ثم انتقل لاحقاً إلى الأردن في مرحلة إقليمية شديدة الحساسية.

في محطة واشنطن، يلفت السفير الفصام النظر إلى مسألة جوهرية في العمل الديبلوماسي هي مسألة القيادة داخل المؤسسة. فهو يسجّل، بوضوح لا يخلو من صراحة، أن الأداء المهني في السفارة لم يبلغ المستوى المأمول في بداياته، إلى أن تولى السفير الشيخ سالم صباح السالم رئاسة البعثة، منقولاً من لندن. عندها – وفق ما يروي – بدأت السفارة تستعيد حيويتها، ويتشكل فيها معنى الفريق، والعمل المؤسسي، بما يعكس أثر القيادة المؤهلة في رفع كفاءة الأداء، حتى في أكثر البيئات السياسية تعقيداً.

أما تجربته قنصلاً عاماً في دبي والإمارات الشمالية في مطلع السبعينيات، فتأتي في الكتاب بوصفها واحدة من أغنى المحطات وأكثرها دفئاً ومعلوماتية، فهي مرحلة تزامنت مع بدايات نهضة دولة الإمارات العربية المتحدة، ومع تعاون وثيق بين الكويت والإمارات في مجالات التعليم والثقافة والاقتصاد. ويقدم السفير الفصام وصفاً دقيقاً لهذا التفاعل الأخوي، الذي لم يكن مجرد دعم مالي، بل كان شراكة في بناء الإنسان والمؤسسة، وهو ما يعكس الدور الكويتي المبكر في دعم الاستقرار والتنمية في محيطه الخليجي، ويحتاج الإماراتي والكويتي أن يتعرفوا عليه.

وعلى النقيض من ذلك، تبدو تجربة عدن قاسية ومربكة. يصف السفير الفصام تعامله مع قيادة يمنية جنوبية يغلب عليها الارتباك والانقسام، ويشير بوضوح إلى ضعف التأهيل العلمي لدى عدد من القيادات، وإلى حدة الصراعات الداخلية التي كانت تنعكس مباشرة على العلاقات الخارجية. في هذه الصفحات، لا يكتفي الكاتب بوصف الواقع، بل يترك للقارئ أن يستنتج كيف يمكن للإيديولوجيا حين تقترن بالجهل أن تعيق الدولة، وأن تحوّل الديبلوماسية إلى ساحة توتر دائم.

وتأتي محطة الأردن لتضيف بعداً آخر إلى التجربة. فقد شهدت تلك المرحلة علاقات طبيعية، بل إيجابية، بين الكويت والأردن، قبل أن تنقلب المواقف رأساً على عقب بعد الغزو العراقي للكويت عام 1990. يسجل السفير الفصام بمرارة، وبوضوح، كيف تحوّل الموقف الأردني إلى موقف معادٍ للكويت، ومساند للنظام العراقي، رغم ما قدّمته الكويت من دعم مالي وسياسي. وهي تجربة مشوقة في تفاصليها وغنية بالدروس، تكشف هشاشة التحالفات حين تُبنى على حسابات ظرفية ومصلحية، لا على مبادئ ثابتة.

إنّ أهمية هذا الكتاب، وأمثاله من مذكرات السفراء الخليجيين، لا تكمن فقط في توثيق الأحداث، بل في تقديم مادة تعليمية غير مباشرة للأجيال الجديدة. فالديبلوماسية ليست نصوصاً بروتوكولية، بل ممارسة يومية معقّدة، تتداخل فيها السياسة بالأخلاق، والمصلحة بالموقف، والصبر بالحكمة. وتحتاج دول الخليج، وهي تواجه عالماً متغيراً اليوم، إلى أن يطّلع جيلها الجديد على ما بذله أولئك الرجال من جهد في الدفاع عن أوطانهم، وعلى كيف كانت الكويت – على وجه الخصوص – مصدر دعم وتوازن في محيطها، قبل أن تكشف المحن عن وجوه لا تُنسى؛ هذا الكتاب حريّ بكل الديبلوماسيين الجدد أن يقرأوه، للاستفادة من الخبرة الناضجة.

من هنا، فإن تشجيع السفراء السابقين على كتابة مذكراتهم، وقراءة هذه الأعمال بوعي نقدي، هو جزء من بناء الذاكرة الوطنية، ومن صيانة الخبرة التي لا تُقدّر بثمن. وكتاب السفير سليمان سالم الفصام يندرج في هذا الإطار، بوصفه شهادة صادقة على زمن عربي مضطرب، وتجربة كويتية جديرة بأن تُروى وتُقرأ.

 

 

الأكثر قراءة

دوليات 12/14/2025 3:19:00 PM
تحوّل صاحب متجر الفواكه أحمد الأحمد إلى "بطل بوندي" بعدما انتزع سلاح أحد المسلحين خلال هجوم على احتفال الحانوكا في شاطئ بوندي بسيدني، منقذًا عشرات الأرواح قبل أن يُصاب ويُنقل إلى المستشفى.
دوليات 12/15/2025 1:50:00 PM
يقضي الأطفال ووالدتهم معظم وقتهم في التسوق، ويملأون منزلهم الروسي الجديد بالسلع الفاخرة، بحسب مصدر قريب من العائلة.
دوليات 12/15/2025 2:38:00 PM
تحدّثت تقارير عن صلة محتملة لإيران واستخباراتها بهجوم سيدني.
العالم 12/14/2025 11:00:00 PM
الأب لقي حتفه بينما يرقد الابن في المستشفى.