ليس توم براك غبياً...
ليس توم براك غبياً ولا عفوياً في كلامه، هو نسخة مقلدة عن رئيسه دونالد ترامب، ومثله موهوب في إطلاق المواقف المثيرة للجدل والانقسام. الديبلوماسي الأميركي ذو الأصول اللبنانية الذي اختاره ترامب مبعوثاً إلى سوريا (ولبنان سابقاً) شغل اللبنانيين بتصريحاته المباشرة والفجة والخالية من اللياقات أحياناً كوصفه الصحافيين اللبنانيين بالحيوانات.
أثار براك حفيظة لبنانيين كثيرين عندما أعلن في منتدى الدوحة قبل أيام: "يجب جمع سوريا ولبنان معاً لأنهما يمثلان حضارة رائعة"، وذلك في معرض إشادته بإنجازات النظام السوري الجديد، والمتضمنة انتقاداً ضمنياً إلى لبنان الذي مازال "يماطل" في الانضمام إلى السياسة الأميركية المرسومة للمنطقة.
انبرى لبنانيون من مستويات مختلفة للرد على كلام براك متهمينه بمحاباة النظام السوري وتشجيعه على ضم لبنان أو على الأقل على التدخل في شؤونه الداخلية ما يعيد شبح سيطرة النظام السابق على البلد ثلاثين سنة. وتندّر بعضهم بالقول إن براك ربما يكون قومياً سورياً. لم يرد باراك، بالتأكيد، الترويج لفكرة ضم لبنان وسوريا في بلد واحد أو ضم لبنان إلى سوريا باعتبارهما بلداً واحداً، فقط أراد تهديد اللبنانيين، بأن انتظموا في الصف. فوحدة لبنان وسوريا ليست مطلباً أميركياً بالتأكيد، وتوم براك ليس من مريدي أنطون سعادة.
في الوقائع التاريخية التي بدا أن أكثرية رواد مواقع التواصل الاجتماعي لا يعرفونها، أو ربما يتجاهلونها، أن لبنان يوماً لم يكن تابعاً لسورياً كبلد ولا سوريا تابعة للبنان، ولم يكن لبنان يوماً دولة مستقلة ولا سوريا كذلك بحدودهما الراهنة، ولم تكن لهما عبر التاريخ حدود معروفة ومحددة كدولتين، لقد كانا غالباً خاضعين لقوى إقليمية واحتلالية كبيرة. خضعا لكل أمبراطوريات الشرق والغرب: الفرس والبابليين والأشوريين وقدامى المصريين والإغريق والرومان والعرب والصليبيين والماليك والأتراك والفرنسيين .... وتشكل شعباهما من مزيج من الحضارات والثقافات والأعراق والأديان، وهو مامنحهما شخصية خاصة في العالم العربي الواسع.
تشكلت الدولتان بحدودهما الحالية بعد الحرب العالمية الأولى ومؤتمر سان ريمو عام 1920الذي قسًم المنطقة بين السيطرتين الفرنسية والانكليزية، تطبيقاً لاتفاق سايكس بيكو قبل ذلك بأربع سنوات، لتسهيل زرع الكيان الصهيوني الاستعماري في قلب المنطقة. لذلك كل السجال الحالي، في سوريا ولبنان، حول لبنان وسوريا هو كلام عاطفي، شوفيني غالباً، لا أساس تاريخياً له. كان لبنان دائما موجوداً وكانت سوريا دائماً موجودة، لكن ليس باعتبارهما كيانين مستقلين بحدودهما القانونية، بل كمنطقتين مفتوحتين على بعضهما بعضاً ومتفاعلتين ثقافياً واجتماعياً باعتبارهما إقليماً واحداً خاضعاً لدول كبرى. أما ما يسوقه البعض من حجج على غرار أن طرابلس كانت تابعة لولاية الشام أو دمشق تابعة لولاية بيروت وغير ذلك من التقسيمات العثمانية فلا يعدو كونه تقسيمات إدارية ضمن الدولة الواحدة (العثمانية) وكانت تتغير وفقاً لضرورات الأمن والاقتصاد وجباية الضرائب.
كشفت التعليقات عن ثنائية متناقضة، وهي ثنائية ستظهر لاحقاً مع حدث سريع لكنه يحمل دلالات عميقة هو الاحتفالات اللبنانية السورية بذكرى سقوط بشار الأسد، وهي ثنائية الانفصال والاتصال. فبقدر ما يريد لبنانيون الابتعاد عن سوريا ونظامها الجديد، يلتصق آخرون بها وبنظامها الإسلامي المستجد.
كانت الذكرى السنوية الأولى لسقوط بشار الأسد وتسلم "هيئة تحرير الشام" الحكم في سوريا بزعامة أبو محمد الجولاني الذي أصبح الرئيس أحمد الشرع مناسبة لتظهير حجم الوجود السوري في لبنان واحتمالات تحوله إلى حالة تفجيرية. خرج سوريون ولبنانيون كثيرون في مسيرات دراجة في مناطق لبنانية عديدة، لا سيما تلك ذات الأكثرية السنية، رافعين العلم السوري ورايات إسلامية متعددة بعضها عائد لتنظيمات متشددة، أثار مشهد المسيرات حفيظة انصار "حزب الله" وحركة "أمل" بشكل خاص، خصوصاً عندما لامست المسيرات خطوط التماس مع التجمعات الشيعية في الضاحية الجنوبية لبيروت وفي حارة صيدا في الجنوب. بعض التوترات بين الطرفين أعادت من تحت الرماد الصراع السني /الشيعي الذي همدت ناره في السنوات الأخيرة، وكان حاسماً تدخل الجيش وقيادات سياسية عملت بسرعة على لملمة الوضع الذي كان ينذر بشر مستطير.
كشفت حادثة المسيرات حالة الكره لدى بعض اللبنانيين تجاه السوريين، وهي حالة وصلت على مواقع التواصل الاجتماعي الى حد العنصرية، كما كشفت عن الخطر الذي تشكله فوضى الوجود السوري غير المنظم في لبنان. وربما تكون قدمت درساً للجميع، وخصوصاً للمحتجين على مسيرات الأمس، لعلهم يدركون كم هي مزعجة ومستفزة وخطيرة المسيرات الدراجة المتفلتة باعتبارها سلاحاً مهدداً للسلم الأهلي لا ضوابط له.
نبض