فسادهم وفسادنا

كتاب النهار 05-12-2025 | 04:44

فسادهم وفسادنا

بلدان تحاسب على أصغر مخالفة وبلدان تمسح الأرض فيها بالقوانين فيستباح الملك العام من الكبير والصغير، فلا قضاء يحكم (أو يسمح له بالحكم) ولا مستبيح يرعوي أو يخجل من فعلته، وربما يتباهى بها.
فسادهم وفسادنا
رئيسة البرلمان النروجي المستقيلة
Smaller Bigger

فضيحة تهز النروج. رئيسة البرلمان إيفا كريستين هانسن استخدمت شقة من خمسين متراً مربعاً عائدة للدولة، فيما يحرّم القانون على المسؤولين الحكوميين استخدام شقة عائدة للدولة إذا كان منزلهم الخاص لا يبعد 40 كيلومتراً أو أكثر عن مكان عملهم، والشقة المقصودة تبعد فقط 29 كيلومتراً. 11 كيلومتراً اطاحت رئيسة البرلمان. ولم تتوان الرئيسة عن الاعتذار من الشعب النروجي وتعهدها دفع إيجار الشقة إلى الدولة عن المدة التي استخدمتها فيها.
ليست الحكومة النروجية بحاجة للشقة ولا إلى بدل إيجارها، فالبلاد من الأغنى عالمياً، لكنه القانون الذي يطبق على الجميع من دون استثناء، و"قداسة" الملك العام الذي يجب الّا يمس بأي حال من الأحوال حتى لو كان مهجوراً. إنه الحد الفاصل بين العام والخاص، بين النزاهة والفساد، بين الأخلاق والتشبيح.
تستحضر الواقعة تلقائياً المقارنة بين واقعين ومنظومتين من القيم والقوانين. بلدان تحاسب على أصغر مخالفة وبلدان تمسح فيها الأرض  بالقوانين، فيستباح الملك العام من الكبير المتسلط والصغير المستقوي، فلا قضاء يحكم (أو يسمح له بالحكم) ولا مستبيح يرعوي أو يخجل من فعلته، وربما يتباهى بها.
 ليس الفساد في الحكم صفة ملازمة للحكام في الدول المتخلفة أو الديكتاتورية، وإن كان غالباً فيها، هو يكاد أن يكون صفة مشتركة في الأنظمة والحكومات، بنسب متفاوتة. من الحكام والمسؤولين من ينجو بفعلته ومنهم من يحاكم ويعاقب بحسب قوانين كل دولة. في الدول المتقدمة يحاكم الفاسد بموجب القوانين النافذة وبحكم الشعب، حصل ذلك في أميركا وفي بريطانيا وفي إيطاليا وفي السويد وفنلندا وفرنسا وكوريا الجنوبية وغيرها الكثير من الدول. كما حصل في إسرائيل أكثر من مرة. اما في الدول المتخلفة فالأمر مختلف، وقليلة هي الدول والشعوب التي تحاكم فاسديها من الحكام والمسؤولين، وإذا حاكمتهم فليس بالقوانين وصناديق الانتخاب... 

 ...دخل الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي إلى السجن ليمضي فيه عقوبة خمس سنوات، بعد محاكمات طويلة ومعقدة أفضت إلى إدانته بتهم فساد أخطرها تلقيه أموالاً عام 2007 من الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي لتمويل حملته النتخابية. ذهب ساركوزي إلى سجنه ممسكاً بيد زوجته خاضعاً لقانون بلاده بغض النظر عن اعتبار نفسه بريئاً أو لا. لم يحطم أنصاره الأملاك العامة أو الخاصة، ولم يعترض أحد على قرار المحكمة، ولم تنظم التظاهرات والاعتصامات احتجاجاً على اعتقال الرئيس السابق ولم تتحرك طائفة الرئيس وزعماؤها لنصرة ابن دينهم (ربما لا يعرف كثر ديانة الرئيس).
قبل ساركوزي، نجا الرئيس وريث الديغولية جاك شيراك من السجن بسبب تقدمه في السن وبداية ظهور أعراض الزهايمر عليه، واضطر أن يمضي أيامه الأخيرة منعزلاً وعرضة لهجمات متكررة من معارضيه وبعض الإعلام.
ليس ما حصل لساركوزي أمراً نادر الحدوث في العالم، فعشرات الرؤساء حوكموا في بلدان الشرق والغرب وفي أفريقيا وأميركا، وكثيرون منهم لم تقتصر الأحكام بحقهم على السجن بل أعدموا في ما يشبه المحاكمات الميدانية، ولأسباب سياسية غالباً، ليحل محلهم رؤساء من طينتهم نفسها. قليلون حوكموا وأدينوا بتهم فساد ونهب وسوء استخدام السلطة ومخالفة الدساتير والقوانين، على شاكلة ساركوزي. إما الحكم على الفشل في إدارة البلاد، فتعاقب عليه البلدان الديموقراطية باللجوء إلى صناديق الانتخاب وليس بالقتل أو النفي أو الانقلاب. عندما يفشل الرئيس يحاسبه الشعب وعندما يتجاوز المسؤول حدود القانون يحاسبه القضاء المستقل. هكذا هي الأنظمة المتمسكة بالديموقراطية والعدالة للجميع. ليس الرؤساء في العالم الديموقراطي معصومين ومحميين بالطوائف والاحزاب بل يخضعون للمحاكمة (الحقيقية وليس الانتقامية أو الشكلية،) ويسجنون ولو مرت عشرون سنة على ارتكابهم الفساد وتجاوز حدود السلطة.
صحيح أن ساركوزي خرج من السجن بعد أقل من شهر على سجنه، وصحيح أنه لم يسجن في زنزانة تشبه القبر بل أفردت له غرفة مجهزة تليق بإنسانيته أولاً وأخيراً الًا أن العقاب الكبير الذي أصدره الشعب الفرنسي ومؤسساته القضائية والدستورية كان الأهم. لقد أخرج من الحياة السياسية الفرنسية إلى أمد طويل قد يكون نهائياً، وستبقى وصمة الفساد تلاحقه حتى آخر يوم من حياته. سيذكره الشعب الفرنسي دائما كرجل فاسد رغم أن تهمته لم تشمل الخيانة ولا ارتكاب جرائم بحق الشعب الفرنسي...
يختلف بعض النموذج العربي في التعامل مع الفاسدين من الحكام والمسؤولين، لا محاكم تنعقد لذلك ولا محاكمات حقيقية، فقط قرار تتخذه السلطات قد يصل إلى حد القتل أحياناً أو "الاستنحار" كما حصل في سوريا مراراً. هذا إذا حصل نوع من المحاسبة، لأن في غالب الاحيان لا محاسبة ولا من يحاسبون. الانتخابات ليست غالباً من وسائل المعاقبة، في بلد يتباهى الناس بفساد زعمائهم وفشلهم، كما في لبنان مثلاً،  ينتخب الشعب الفاسدين ويدافع عنهم، ونادراً ما تستطيع مؤسسات الدولة القضائية محاكمة فاسد، لأن الفساد محمي أيضاً ويكاد أن يكون فضيلة في بلد انقلبت فيه كل المقاييس القانونية والأخلاقية والقيمية.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

الخليج العربي 12/8/2025 2:59:00 PM
روبوت يتولّى دور المذيع معتمداً على تقنيات الذكاء الاصطناعي
المشرق-العربي 12/8/2025 6:32:00 AM
تلقّى اتصالاً من قيادته الإيرانيّة في الخامس من كانون الأول/ديسمبر 2024، أي قبل ثلاثة أيام من سقوط الحكم السابق، طلبت منه فيه التوجّه إلى مقرّ العمليات في حيّ المزة فيلات شرقية في العاصمة صباح الجمعة في السادس من كانون الأول/ديسمبر 2024 بسبب "أمر هام".
المشرق-العربي 12/8/2025 7:07:00 AM
ألقى الشرع كلمة قصيرة بعد الصلاة قال فيها: "سنعيد بناء سوريا بطاعة الله عز وجل، وبنصرة المستضعفين، والعدالة بين الناس"
المشرق-العربي 12/8/2025 10:41:00 AM
فر الأسد من سوريا إلى روسيا قبل عام عندما سيطرت المعارضة بقيادة الرئيس الحالي الشرع على دمشق