ليست سوريا ولا غزّة آخر ساحات الإبادة الجماعية في الإقليم

كتاب النهار 02-12-2025 | 04:20

ليست سوريا ولا غزّة آخر ساحات الإبادة الجماعية في الإقليم

في قلب هذا المشهد يصعد سؤال «التسيّد الإسرائيلي»، حيث يُستخدم فرطُ القوة لتعويض الهشاشة البنيوية. وتغدو الحروب غير المتناظرة، بما فيها المسيّرات والفضاء الإلكتروني والصواريخ وأسلحة الدمار الشامل، لغة العقد المقبل في الإقليم.
ليست سوريا ولا غزّة آخر ساحات الإبادة الجماعية في الإقليم
دمار الحرب الاسرائيلية على غزة (مواقع).
Smaller Bigger

حينما تستقرّ الفوضى، فإنها تلبس خوذة وتذهب إلى الحرب!
فحرب غزة ليست حدثاً معزولاً، بل علامة على طور جديد من الصراع في الشرق الأوسط؛ طورٍ لا تحكمه الحروب التقليدية بين جيوش نظامية بقدر ما تضبطه أدوات ردع غير متكافئة، وجبهات مفتوحة بين دول وأذرعها، وقانون دولي يتآكل أمام أعيننا.
في قلب هذا المشهد يصعد سؤال «التسيّد الإسرائيلي»، حيث يُستخدم فرطُ القوة لتعويض الهشاشة البنيوية. وتغدو الحروب غير المتناظرة، بما فيها المسيّرات والفضاء الإلكتروني والصواريخ وأسلحة الدمار الشامل، لغة العقد المقبل في الإقليم الأكثر هشاشة في العالم. 
في لعبة «عضّ الأصابع» الإقليمية لم يتغيّر نوع السلاح فقط، بل طبيعة اللعبة ذاتها؛ 
فالسؤال لم يعد من يملك السلاح الأقوى، بل من يحتمل الألم أكثر. وبدلاً من أن يكون الردع أداة لضمان السِّلم والاستقرار، صار عملياً مصدراً لعدم الاستقرار.
وفي زمن الحروب غير المتناظرة، ومع انخفاض كلفة إيقاع أعلى قدر من الضرر، تغيب المواجهات الواسعة بين الجيوش، وتنخرط بعض دول الإقليم في تدمير منهجي لبنية الدولة الوطنية. 
من بيروت إلى دمشق وعمّان وصنعاء والقدس وطهران، بل وموسكو أيضاً، لم يعد الردع معادلة بسيطة بين عاصمتين، بل شبكة معقّدة من الرسائل المتبادلة والرهانات التاريخية والتهديدات الوجودية المفتوحة كالأواني المستطرقة بين كل الساحات والوكلاء. لم يعد الردع احتواءً للعدوان، بل تحوّل إلى وَهْم بالأمان المفقود ليصير خطراً وجودياً على صاحبه وعلى السلم الإقليمي.
أصبحت المنطقة أشبه بثقبٍ أسود يتغذّى على بيئة استراتيجية دولية وإقليمية تتدهور باطراد. 
فالمعاهدات الدولية التي نظّمت لعقود انتشار الأسلحة، خصوصاً النووية، تفقد اليوم مفعولها. تليها انسحابات متتالية للقوى الكبرى من توافقات الحرب الباردة للحد من أخطار الدمار الشامل، ثم الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران، وعودة دول عدّة إلى إجراء تجارب نووية، فضلاً عن التهديدات المتبادلة باستخدامها لحسم صراعات تقليدية مثل أوكرانيا. 
فوق ذلك، جاء التسيّد الإسرائيلي ليؤكد عمق الفوضى الأمنية والاستراتيجية في إقليم هش اسمه الشرق الأوسط، وغياب أيّ إطار فعّال لضمان أمنه الإقليمي.
مع تحوّل المنطقة إلى أوانٍ مستطرقة، يُملأ كلُّ فراغٍ استراتيجي وسياسي وقانوني بمنطق الحلول الصفرية. تنفتح الساحات على صراع واسع لا يقتصر على الملف النووي الإيراني، بل يطال ما بقي من آليات الاستقرار. 
هكذا تتحوّل قواعد الحظر إلى استثناء، وتترسّخ المعايير المزدوجة، بما يعمّق شعور أطراف عدّة بالغبن والتهديد الوجودي.
بالنسبة إلى الدول الأضعف أو المحاصَرة اقتصادياً وسياسياً، تصبح الخيارات محدودة. وبينما يستغرق بناء جيوش تقليدية متطوّرة ما لا يقل عن خمسٍ وعشرين سنة في سباق محموم وموازنات مستنزَفة، يصبح، بالنسبة إلى بعض القوى، تجاهل التهديدات ضرباً من الخبل السياسي، ومغامرة تاريخية غير مضمونة، لتغدو أدوات الردع غير التقليدية طريقاً «مختصَراً» إلى منطق الردع والقوة؛ أدواتٍ لردع الخصوم، واستراتيجيةً لانتزاع اعتراف دولي بوزن الفاعل ومكانته. 
في ما يبدو مخاطرة محسوبة ظاهرياً، تخوض هذه اللعبة دول الإقليم والقوى الدولية، من إسرائيل إلى إيران وتركيا وروسيا والولايات المتحدة، لكنها تنطوي عملياً على احتمالات عالية لانفلات الصراع، بخاصة حينما تختلط رسائل الداخل بإشارات الخارج، وتتداخل حدود الردع مع حدود المغامرة.
تضاف إلى هذه اللوحة الفوضوية جبهةٌ الحروب السيبرانية العابرة للحدود. فإلى الصواريخ والمسيّرات، تتبرعم خلسة هذه الجبهة، لكنها مرشّحة لأن تكون أشدّ ضرراً وإيلاماً. 
لا يتعلق الأمر بتصاعد الهجمات السيبرانية على البنى التحتية الحساسة والمنشآت النووية وشبكات الطاقة والاتصالات، بل عن كوارث وشيكة تُنفَّذ بأدوات الذكاء الاصطناعي والاختراقات السيبرانية، من دون إطلاق رصاصة واحدة. يوفر هذا السلاح ميزة الإنكار للمهاجمين، وإرباك الخصم: في ما يبدو إنذاراً، أو رسالة ردع، أو عملية محققة؟! وهكذا يتحقّق الهجوم «من تحت الطاولة»، من دون بلوغ العتبة التقليدية لإعلان الحرب، ولتصبح دول الإقليم، القريبة والبعيدة، في حالة قلق دائم وسباق مفتوح لاستعادة توازن الردع وبناء خطوط حمراء جديدة. 
في هذا المشهد تصبح الأخطار غير قابلة للحساب. ومع تآكل الدولة الوطنية في العديد من البلدان، والفشل الجزئي أو الكامل لمؤسساتها الأمنية والسياسية، تنشأ فضاءات مجتمعية خارج سيطرة الدولة، تملأها ميليشيات، تكتسب شرعية محلية موضوعية، وتبحث عن دعم خارجي يوفّر قدرات عسكرية أكثر تقدّماً. تدخل هذه الجماعات في معادلات الردع الإقليمي بالوكالة أو بالشراكة. ويتآكل مفهوم السيادة، وتختلط خطوط التماس بين الحروب النظامية وحروب الوكلاء، ما يجعل أي مواجهة موضعية قابلة للتحوّل سريعاً إلى أزمة إقليمية مفتوحة.
ثمة سيناريوهات عديدة للكارثة: أولاً، نشهد اليوم تصعيداً وحشداً تدريجياً. ورغم الوهم النزق الذي روّجه ترامب، تستمرّ الدول والجماعات المسلّحة في بحثها المستميت عن استعادة ردعها غير التقليدي، وتستمر الاشتباكات المتقطّعة على التوازي وفق ضرورات رسائل الردع المتبادل. كلّ ذلك في غياب قواعد اشتباك مستقرة، ما يجعل الأحداث الصغيرة قادرة على جرّنا، خطوة بعد أخرى، نحو انفجار واسع، مقصود أو غير مقصود.
ثانياً، ثمة سيناريو أقل احتمالاً لكنه أشدّ خطورة، حينما يصل التلويح بالقوة إلى حدّ كسر هشاشة اللعبة، فتشعر دولة أو جماعة بلحظة تهديد وجودي: إمّا «الآن أو أبداً». ويكفي مجرد الاقتراب من هذه العتبة لإطلاق سباق محموم نحو الهاوية.
أما الولايات المتحدة فلا تزال تحت وهم إمكان احتواء الأحداث احتواءً «مشروطاً». لكن هيهات؛ فهذا الاحتواء لا يعالج الخلل البنيوي في منظومة الأمن الإقليمي، بل يقامر بترك التناقضات تنمو تحت الرماد.
لا يفيد سيل الإدانات ولا قرارات الدول الجوفاء في درء خطر الدمار الشامل عن الإقليم. المطلوب إعادة صوغ معادلة الأمن في المنطقة من أساسها، عبر آليات أمن جماعي، وضبط سباق التسلّح، وتعزيز دور المؤسسات الدولية، وربط أي ترتيبات إقليمية واضحة بمفهوم شامل لنزع أسلحة الدمار الشامل لا يقتصر على ملف واحد أو دولة بعينها.
وفي سياق هذا الصراع الإقليمي المنفلت، لا يبقى سؤال الفناء والإبادة الجماعية محصوراً في غزة أو الضفة، بل يصبح السؤال: من يكون التالي بعد غزة؟ فيما يستمر في ظلّ، سباق التسلح وتنمو المشاعر الانتحارية، شرق أوسط غارق حتى رأسه في أزمة وجودية عميقة.
العلامات الدالة

الأكثر قراءة

الخليج العربي 12/1/2025 12:53:00 PM
السعودية وروسيا توقعان اتفاقية إعفاء متبادل من التأشيرات لحملة جميع الجوازات
المشرق-العربي 11/30/2025 12:47:00 PM
وزارة النقل العراقية تحسم الجدل: لا وجود لطائرة مركونة في صحراء الوركاء، والصورة المتداولة لطائرة عابرة رصدها القمر الصناعي للحظة واحدة فقط.
المشرق-العربي 12/1/2025 11:51:00 AM
قائد المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي، رافي ميلو، يتفقد مواقع عسكرية على امتداد الحدود مع سوريا ولبنان، للاطلاع على تدريبات القوات وإجراء تقييمات ميدانية للجهوزية.
كتاب النهار 12/1/2025 9:21:00 AM
زيارة البابا يفترض أن تكون مناسبة للمصالحة، وكان ممكناً تخطي البروتوكول فيها، إذ يحق لصاحب الدعوة، كما للشاعر، ما لا يحقّ لغيره.