السودان في مواجهة المجهول
يعيش السودان مرحلة معقدة من الصراع الدموي بين مكوّنين عسكريين كانا إلى وقت قريب حليفين: عبد الفتاح البرهان قائد الجيش، ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع. هذا التحالف الهش انهار بعد الاتفاق الذي نص على دمج قوات الدعم السريع في الجيش، وهو ما رفضه حميدتي الذي يقود ميليشيا تفتقر إلى العقيدة العسكرية النظامية، وتغلب عليها البنية القبلية والطموح الشخصي لقائدها.
الصراع الراهن ليس سوى نتيجة لخيانة تطلعات الحراك الشعبي الذي أسقط نظام عمر البشير سنة 2019. فبدل أن تؤدّي الثورة إلى بناء نظام ديموقراطي، تم الالتفاف على مطالبها عبر إعادة إنتاج النظام القديم بوجوه جديدة. وقد روّجت بعض النخب في المنطقة لفكرة أن السياق الدولي لم يعد مساعداً على تغييرات جذرية، خاصة بعد الثورات المضادة ووصول ترامب إلى الحكم، والتحولات الجيوسياسية التي فرضت الاستقرار الأمني أولويةً على حساب التحوّل الديموقراطي الذي يقوم في المنطقة على أسس هشة.
هذه النخب تبنت منطقاً مفاده أن أي تغيير في المنطقة لا يمكن أن ينجح من دون دعم أميركي أو إقليمي، وأن القوى الكبرى تملك القدرة على التحكم في مسار الانتفاضات الشعبية، وإن لم تستطع منع سقوط الأنظمة فإنها غير قادرة أيضاً على منع تحول الثورات إلى حروب أهلية أو إلى إصلاحات شكلية تبقي على جوهر الأنظمة السابقة، كما يجري اليوم في السودان.
منصف المرزوقي الرئيس التونسي الأسبق لخص هذه المعضلة بقوله: “نصف ثورة يؤدي إلى وضع أسوأ من الوضع قبل الثورة”. فالمرحلة الانتقالية إن لم تُبن على أسس ديموقراطية واضحة، تتحوّل إلى مرحلة رمادية تسمح بعودة رموز النظام القديم تحت مسمّيات جديدة. وهكذا تتفكك جبهة التغيير تدريجاً، وتعود النخبة الحاكمة إلى المشهد بعد أن تمتص غضب الشارع عبر تقديم تنازلات وهمية.
في السودان، تكررت السيناريوهات نفسها التي عاشتها دول فشلت في تحقيق انتقال ديموقراطي حقيقي. فقد استطاعت القوى العسكرية أن تجهض الثورة وتستعيد زمام المبادرة، مستفيدة من ضعف التأطير السياسي وغياب قيادة موحدة ذات مصداقية، إضافة إلى تراجع الحماسة الشعبية بفعل الأوضاع الاقتصادية القاسية وضغوط الحياة اليومية.
السودان، الذي يمتلك ثروات هائلة من الأراضي الزراعية والمعادن والموارد الطبيعية، يعيش مفارقة مؤلمة؛ فهو من أغنى الدول بالموارد، لكنه من أفقرها في التنمية. السبب في ذلك هو استمرار النظام العسكري منذ عقود، الذي أدخل البلاد في دوامة من الحروب والانقسامات. فسياسات جعفر النميري وتحالفاته المتناقضة بين الإسلاميين والشيوعيين أدّت في النهاية إلى انفصال جنوب السودان سنة 2011 بعد حرب أهلية طويلة، ليولد كيان جديد وسط معاناة إنسانية واقتصادية مستمرة.
هذا المسار جعل السودان نموذجاً لما يسمّيه الباحثون “الدولة الفاشلة”، أي الدولة التي تعجز عن القيام بوظائفها الأساسية ككيان مستقل. وقد أشار الباحثان الأميركيان هيلمان وراتنر في دراسة لهما عام 1993 إلى السودان كأحد الأمثلة البارزة على فشل الدولة، وهو المفهوم الذي توسّع لاحقاً مع دراسات وليام زارتمان في منتصف التسعينيات.
ما يجري في السودان يعكس مأزق الانتقال الديموقراطي الذي تعرفه كثير من دول العالم ككل: شعوب تطمح إلى الحرية والعدالة، لكن تفتقر إلى التنظيم والقيادة، وأنظمة تملك خبرة طويلة في احتواء الأزمات وإعادة إنتاج نفسها في ظلّ عالم يهيمن عليه اللايقين.
الخلاصة هي أن السودان أسير دائرة من العنف والفشل السياسي، في انتظار لحظة تاريخية قد تعيد الأمل المفقود.
نبض