نيويورك تنصر ممداني… فهل ينصت الديموقراطيون؟
في المساء الذي انتصرت فيه نيويورك لإسمٍ لم يكن محسوباً على منظومة النخبة، بدا المشهد الأميركي كأنّه يتنفّس على غير عادته. فوز زهران ممداني لم يكن مجرّد تبدل، بل كان ارتجافة في قلب الحزب الديموقراطي، وصفعة لحزب استسهل التكرار وهو يتهاوى من الداخل.
ممداني، وُلد في أوغندا، وهو من أصول هندية، ينتمي إلى التيار اليساري الاشتراكي داخل الحزب؛ التيار الذي طالما وُصف بالهامش المثالي وبالطوباوية السياسية، فإذا به اليوم يُمسك بمقود مدينة تُعد معقل المال والرأسمالية.
ومن هنا تأتي الصدمة: أن تنتصر نيويورك – معقل الشركات والبورصات – لخطاب يسار اشتراكي! فوزه كان عسيراً على الحزب الديموقراطي الذي وجد نفسه بين الإعجاب الحذر والدعم المتردّد.
أوباما وساندرز مدّا إليه اليد والدعم، بينما لاذ كثير من رموز الحزب بالصمت، من آل كلينتون إلى أقطاب الكونغرس، كأنهم يخشون أن يُحسبوا على ثورة لا يفهمونها بعد.
ترامب ابتلع الغصّة على طريقته لكن أخشى أن الغصة الديموقراطية كانت أشدّ مرارة؛ كلاهما أدرك أن شيئاً في الشارع الأميركي تبدّل إلى الأبد. لقد صار الحزب الديموقراطي عجوزاً بأقنعة شابّة. يحدّث الناس عن المستقبل بلسان الماضي، ويخاطب جيلاً لا يشبهه بمفردات فقدت بريقها. أجيال شبّت على كتب الحرية، فإذا بها تجد الحزب مزيجاً من القوالب الصلبة والخطابات الفارغة؛ حزب يعيش على إرث أوباما من دون أن يمتلك شجاعته، ويستدعي اسم ساندرز من دون أن يتحمل فكرته.
الشعب الأميركي، الذي اعتاد الاختيار بين السيئ والأسوأ، بدأ يدرك أن البدائل ليست قدَراً بل صناعة. والدستور هو “الخيط والمخيط” كما نقول بلهجتنا المحلية.
لقد أنهكت الإدارات الديموقراطية المواطن العادي بمشاريع كبرى لا تراه؛ بالكلام عن العدالة المناخية في حين يعيش ملايين تحت خطّ الكفاف، وبالدفاع عن الأقليات خارج الحدود بينما تتزايد الفجوات العرقية في الداخل.
ولمّا فقد الحزب الديموقراطي صدقيّته في الداخل، تمدّدت هشاشته إلى الخارج. تحدّث عن حقوق الإنسان في الشرق الأوسط وهو يصمت عن غزة، وعن الديموقراطية في آسيا، وهو يحتضن الاستبداد حين يخدم مصالحه، حتى إنه عجز عن أن يقرأ المشهد الحالي، فالقوى في الشرق الأوسط تبدلت، ويأبى هو عن تحديث المحدث، وتأكيد المؤكد.
انكشفت ازدواجيته أمام العالم، لا بالتصريحات بل بالأفعال؛ وها هي الشعوب التي كانت تنظر إلى واشنطن قُدوة، تنظر اليوم إليها عِبرة.
الديموقراطيون نسوا أن القوة بلا صدقية تُفقد تأثيرها، وأن الهيمنة الأخلاقية حين تسقط لا يعيدها جيش ولا تحالف.
لقد كانت الإدارات الديموقراطية – من كلينتون إلى بايدن – تحكم العالم بنبرة الواعظ، حتى حين كانت سياساتها تُعمّق الجرح الذي تزعم مداواته.
حين ينتصر ديموقراطي من تيار اشتراكي في قلب نيويورك، فإن الرسالة الإيجابية للحزب تقول: لا يزال لديكم فرصة، فالفائز منكم، لكنه صوت لا يشبهكم.
إنها إشارة إلى أن الحزب الديموقراطي لم يمت بعد، لكنه يعيش غيبوبة الرفاهية السياسية. هيكلته التنظيمية، رؤيته الفكرية، وأهدافه التي لم تتجدّد منذ عقود، كلّها بحاجة إلى إعادة بناء لا إلى ترميم.
إن أمام الديموقراطيين فرصة للعودة، لكن بشروطٍ واضحة: أن يبدأ التغيير من الداخل، أن يسمعوا أصوات الهامش قبل أن يبتلعهم ضجيج القواعد الغاضبة.
الفرصة لم تولد مع ممداني فحسب، لكنها تجلّت عبره؛ كأن التاريخ نفسه اختاره ليقول للحزب إن الإصلاح بدأ من القاع، من الشارع، ممن لم تُحسب لهم حسابات النخبة.
ولأن العالم لم يعد ساذجاً، فإن إصلاح الحزب الديموقراطي اليوم ليس ترفاً سياسياً، بل شرطُ بقاء.
فإن لم يُصلح الحزب نفسه، فسيأتي جيلٌ آخر يكتب على جدار البيت الأبيض عبارة بسيطة تقول: "لن يعود الديموقراطيون إلى هنا حتى يغيّروا ما بأنفسهم؛ فالأبواب التي تُفتح بالشعب، لا تُستعاد بإنكار الواقع".
نبض