القتل المبرمج في الشرق الأوسط: حين تتحول الوجوه إلى أرقام!

كتاب النهار 04-11-2025 | 04:01

القتل المبرمج في الشرق الأوسط: حين تتحول الوجوه إلى أرقام!

إننا نعيش في زمن يحتاج إلى مقاومة من نوع آخر، مقاومة ضد التبلد، ضد التبرير والاعتياد، ضد الشحن بالإيديولوجيا. فحين يفيق الضمير من سباته يبدأ التاريخ بالتغير .
القتل المبرمج في الشرق الأوسط: حين تتحول الوجوه إلى أرقام!
الأخطر في ما يجري في غزة والسودان... هو موت الحس الإنساني. (أ ف ب)
Smaller Bigger

في زمن تتصارع فيه المآسي ويتكاثر القتل على الشاشات، يصبح الموت مشهداً يومياً في الشرق الأوسط، من السودان المنهك بالحروب الأهلية، إلى غزة والضفة الغربية، فجنوب لبنان ومناطق في سوريا، حتى الذهاب إلى ليبيا. كل هذه المناطق غارقة في دوامة الدم والعقاب الجماعي.

 

يبدو أن الإنسان فقد حسه الأخلاقي تجاه حياة الآخر، وصار التحول من الوجه إلى الرقم، أخطر ما يهدد إنسانيتنا وهذه المنطقة حضارياً. وإذا أضفنا إلى ذلك كمّاً من الإعدامات والاغتيالات، تصبح الظاهرة مخيفة لأي ذي عقل.

 

في السودان تزهق الأرواح في نزاعات قبلية وإقصائية وسياسية، تتقاطع فيها مصالح العسكريين والميليشيات وحتى الأشباح، بينما يقدم المشهد على أنه "تطور ميداني". في غزة والضفة الغربية يتحول الإنسان الفلسطيني إلى هدف، يفنى بالآلة العسكرية الإسرائيلية المدججة بأنواع السلاح، ويبرر قتل المدنيين بذريعة الأمن القومي، وتستهدف النساء المسالمات وهن ذاهبات لقطف موسم الزيتون بالعصي المدببة بالمسامير، وتقوم الآلة الإسرائيلية أيضا باستهداف القرويين في جنوب لبنان، ويقتل الليبيون بعضهم البعض دون أفق لدولة متّحدة ومدنية.

 

هذا النمط من القتل المبرمج لا يصدر من فراغ، إنه نتيجة اعتياد جماعي للمأساة وانهيار تاريخي في الحس الإنساني، وعندما يتكرر المشهد من دون مساءلة يتبلد الوجدان، وتصبح المأساة مشهداً طبيعياً تألفه الأعين والآذان!

 

السؤال الفلسفي القديم الجديد يعود بقوة: هل الإنسان بطبيعته شرير؟ الواقع أن الشر ليس فطرياً بالكامل، بل هو نتاج ظروف ثقافية وسياسية واقتصادية مركبة. إنه من صنع الإنسان. بيئة الفقر والتهميش والاضطهاد واعتبار الإنسان عبداً لا مواطناً، وإيديولوجيات تعبئ العقول بالكراهية ضد الآخر، وأن الآخر شرير بطبعه، وغياب العدالة في هذه المجتمعات وفشل النظم القانونية في أن تقوم بما يجب أن تقوم به من ردع، كل هذه العوامل يعاد من خلالها تشكيل الإنسان ليصبح آلة طيعة للقتل. والأكثر إيلاماً هو الصمت عن القتل خوفاً أو تأييداً.

 

لقد علّمنا التاريخ أن القتل الجماعي لا يحتاج إلى وحوش، بل إلى بشر عاديين صدّقوا الأكاذيب وسكتوا عن الجرائم، ففاقم الظالم ظلمه.

 

أين ذهبت القيم التي بنيت عليها الأديان الكبرى؟ أين الرحمة والعدل؟ وأين حرمة الدم؟ إن تسييس الدين وتحويله إلى أداة للتحريض على الآخرين أفقداه سلطته الأخلاقية، كما أن الثقافة التي يفترض أن تكون درعاً للضمير  تراجعت إلى مستوى التبرير أو الصمت، ولم تعد القيم العليا تقرر سلوك المجتمعات، بل المصالح والخطابات المتشنجة، مع انكسار المثقف العربي وخوفه، وانعزال رجال الدين الحقيقيين عن الميدان الأخلاقي، وأصبحت المذابح تبرر بلسان الإيمان أو الوطنية.

 

يفترض أن القانون الدولي الإنساني هو صمام الأمان الأخير لحماية الإنسان، لكن الواقع يظهر عجزاً مزمناً وانتقائية فاضحة في تطبيق ذلك القانون. في غزة تنتهك اتفاقيات جنيف يومياً، بينما تكتفي المنظمات الدولية بالإدانة اللفظية، وفي السودان لا أحد يحاسب المجرمين الحقيقيين، رغم آلاف القتلى والمفقودين والمهجرين، ولقد تحولت العدالة الدولية إلى أداة سياسية تستخدم ضد الضعفاء وتتغاضى عن الأقوياء، مما يكرس الإحباط ويدفع المجتمعات نحو دائرة انتقام جديدة.

 

ما نحتاج إليه اليوم هو قرع الجرس عالياً، بدل المطالبة بوقف إطلاق النار، بل وقف اعتياد الموت، ووقف اعتياد القتل، وأن نستعيد القدرة على النظر إلى كل ضحية كإنسان له اسم ووجه وذاكرة وعائلة وأمنيات ومستقبل، أن نعيد إلى الضمير مكانته وإلى الثقافة دورها في بناء التعاطف، وإلى الدين جوهره الحقيقي القيمي. أما استخدامه للتحريض فهو جريمة.

 

قرع الجرس لا يحتاج إلى بيانات، بل إلى وعي جمعي يرفض تحويل الإنسان إلى رقم، ويعيد تعريف الإنسانية كقيمة غير قابلة للمساومة.

 

ليس أخطر مما يحدث في السودان أو غزة أو الضفة الغربية أو ساحات القتل العربية الممتدة. الأخطر هو عدد القتلى، بل موت الحس الإنساني. فمن يشاهد ولا يتحرك هو أيضاً مشارك سلبي في هذه الإبادة المستشرية أمامنا يومياً في أكثر من مكان، وهو اعتبار الإنسان رقماً لا بشراً له روح.

 

إننا نعيش في زمن يحتاج إلى مقاومة من نوع آخر، مقاومة ضد التبلد، ضد التبرير والاعتياد، ضد الشحن بالإيديولوجيا. فحين يفيق الضمير من سباته يبدأ التاريخ بالتغير.

  

الأكثر قراءة

كتاب النهار 11/3/2025 5:40:00 AM
يكفي الفلسطينيين إساءة الى لبنان الذي حضنهم، وإساءة الى اللبنانيين على مختالف فئاتهم ومكوناتهم
ثقافة 11/2/2025 10:46:00 AM
"والدي هو السبب في اكتشاف المقبرة، وكان عمره وقتها 12 عاماً فقط سنة 1922."
النهار تتحقق 11/3/2025 10:29:00 AM
تظهر المشاهد الرئيس عون في قاعة كبيرة، وسط أشخاص. وفي المزاعم، "كان يزور "معرض أرضي" في الضاحية". هل هذا صحيح؟ 
وُلدت دواجي في هيوستن بولاية تكساس لأسرة سورية، وقضت طفولتها بين الخليج والولايات المتحدة بعد انتقال عائلتها إلى دبي وهي في التاسعة من عمرها.