مجازر الفاشر تستدرج السّودان إلى "التّقسيم"؟
من المتوقع أن يوافق طرفا الحرب في السودان على هدنة إنسانية لمدة ثلاثة أشهر، بوساطة وضغط من واشنطن، ويُفترض أن تكون هذه الهدنة تحت رقابة دولية صارمة لئلا يعيد الجيش و"قوات الدعم السريع" تجارب قليلة سابقة لهدنات سقطت سريعاً بُعَيْد الاتفاق عليها. وكانت منظمات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة وموظفوها والمتطوعون فيها قد تعرّضوا لتنكيل واعتداءات في مناطق سيطرة الطرفين، أو هوجمت شاحنات المساعدات ونُهبت، ولا يزال العديد من أفرادها في عداد المفقودين، خصوصاً بعد هجوم "قوات الدعم" على الفاشر عاصمة إقليم دارفور غرب السودان.
ويبني الوسطاء في مجموعة "الرباعية" (الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات) آمالاً على انتهاز هذه الهدنة وربما تمديدها لتعبيد الطريق إلى "حلّ سياسي" ولدفع الطرفين الى القبول بالتفاوض المباشر. لكن مراجع ديبلوماسية عدّة تتخوّف من أن تكون طبيعة العداء والقتال قد فرضت على الطرفين واقعاً غير مؤهّل لتسوية قريبة تحافظ على وحدة السودان شعباً وأرضاً.
عندما اقتحمت "قوات الدعم" مقر القيادة العسكرية في الفاشر (26.10.2025) كانت حامية الجيش والقوات المساندة لها انسحبت من المدينة المحاصرة منذ 18 شهراً. باشر المهاجمون على الفور حملات قتل وإعدامات ميدانية للمدنيين، هاجموا المستشفى السعودي الوحيد الذي كان مستمراً في الخدمة، وشرعوا في تخريب المقار الحكومية وسائر الأبنية والمنازل ونهبها، إذ غدا ذلك تقليداً لديهم لأنهم مجنّدون لقاء الغنائم التي يجنونها، كما ظهر جلياً في أحياء الخرطوم التي سيطروا عليها سابقاً، وكذلك في مدينة ود مدني التي أخلوها تماماً من السيارات وكل وسائل النقل حتى البدائية منها.
غير أن القتل في شوارع الفاشر لم يكن مفاجئاً ولا جديداً، بسبب السوابق في إقليم دارفور (أحداث 2002 و2003 كما في 2023 في الجنينة وغيرها)، إذ إن له طابعَ تطهير عرقي ضد أبناء الفور والزغاوة والبرتي، القبائل المصنّفة "غير عربية"، وبأيدي ميليشيات "الجنجويد" التي عملت سابقاً بأوامر وغطاء من نظام عمر البشير الذي رقّاها لتصبح "قوات الدعم السريع" كجيش موازٍ للجيش النظامي ويخضع نظرياً لإمرته، لكنه الآن في حرب مفتوحة معه منذ منتصف نيسان/أبريل 2023.
في جلسته الطارئة المخصصة للوضع في السودان، بعد أربعة أيام وفيما كانت المقتلة مستمرّة في الفاشر، دان مجلس الأمن المجازر والانتهاكات ولم يعلن عن أي خطوات عملية مطلوبة، لكنه دعا الى وقف فوري لإطلاق النار، مبدياً الخشية من "تفشي المجاعة وانعدام الأمن الغذائي"، ومحذراً من "تصاعد الفظائع ذات الدوافع العرقية". كالعادة تفادى المجلس إصدار قرار آخر مرشّح للفشل بسبب الانقسامات بين أعضائه، لذلك بدت "الهدنة الإنسانية"، التي تُرتّب خارج المظلة الأممية، بمثابة اعتراف بأن جهود "الرباعية" قد تكون أكثر جدوى من القرارات الدولية، خصوصاً أن وفدَين للجيش و"الدعم" كانا في واشنطن قبل الهجوم على الفاشر لمواكبة "الرباعية" في اجتماعها الذي توصل الى خلاصتَين: الأولى، ضرورة "الحدّ من التدخلات الخارجية" في النزاع السوداني، والثانية، ضرورة الدفع باتجاه "عملية انتقال سياسي تقود إلى حكم مدني شامل". وهو ما دعمه مجلس الأمن، معتبراً أن استئناف التفاوض بين الأطراف السودانية "أولوية للتوصّل إلى وقف دائم لإطلاق النار وعملية سياسية شاملة"، داعياً إلى "عدم التدخل في النزاع أو لتأجيج الصراع".
لم يعد للحديث عن وقف التدخلات الخارجية أي معنى، فالأطراف التي تساهم في التمويل والتسليح معروفة ومرتبطة جميعاً بواشنطن و"الرباعية". أما "الحل السياسي"، أي المدني الذي يعيد الجيش و"الدعم" إلى ثكنهما، فكان وشيكاً عام 2023 قبل أن يصبح الشرارة التي فجّرت القتال بين الطرفين. ومنذ تلك اللحظة اعتبر الجيش وحكومته (المعترف بها دولياً) أن "قوات الدعم" مجرد "ميليشيا متمرّدة" ولا تفاوض معها إلا على استسلامها وتفكيكها. لكنّ هناك الآن متغيّراً مهماً، إذ باتت أطراف "الرباعية" متفقة على أن "جماعة الإخوان المسلمين وأنصار النظام السابق في السودان خط أحمر بالنسبة إلى الولايات المتحدة، ولن نقبل أن يكونوا في الواجهة مستقبلاً في السودان"، بحسب مسعد بولس كبير مستشاري الرئيس الأميركي للشؤون العربية والأفريقية. وفي المقابل، استحثّت مجازر الفاشر أعضاء في الكونغرس للدعوة إلى إصدار تشريع يصنّف "قوات الدعم" منظمة إرهابية.
وهكذا، يفقد طرفا الحرب أهليتهما لإنتاج حل دائم يكونان شريكين فيه، حتى لو رضخا للتفاوض المباشر. فـ"الإخوان" و"الفلول" سببٌ لاستبعاد الجيش، ونهج المجازر العرقية سببٌ لاستبعاد "قوات الدعم"، وما دام التدخل العسكري الخارجي للفصل بينهما غير وارد، فعلامَ يكون التفاوض، على التقسيم؟ للمرّة الأولى تبدو الأحزاب السودانية محبطة ومتشائمة، فالتقسيم بات ملازماً للسودان كأنه قدرٌ تاريخي، إذ لم يمضِ وقت طويل على تقسيم السودان بين شمال وجنوب، وحالياً تهيّأت "قوات الدعم" لفصل السودان عن غربه، فلديها "دستورٌ" و"حكومة التأسيس" التي شكّلتها قبل أسابيع. أما سودان - الجيش فأصبحت عاصمته بورتسودان. أي مكان للمدنيين كي يعيشوا في أمان؟
نبض