وطن يمشي إلى قبره!

كتاب النهار 03-11-2025 | 05:34

وطن يمشي إلى قبره!

لم يدرك الباحثون في المقابر أن عليهم أن يُصغوا إلى التراب نفسه، فقد تنطق المقبرة بالحقيقة حينما تصمت كل الدول، وتغيب كل الضمائر.
وطن يمشي إلى قبره!
مقبرة جماعية لضحايا فلسطينيين في غزة
Smaller Bigger

هذا خبرٌ مرّ عابراً كسحابة حزنٍ ثقيلة، بينما تفاصيله كفيلةٌ بأن توقف الأرض عن الدوران.


من بين مئة وخمسة وتسعين جثماناً سلّمتها إسرائيل بعد تعذّر التعرّف على ذويها، وُضِعَت أربع وخمسون جثة فلسطينية مجهولة الهوية، بلا أسماء، وبلا وداع، في مقبرةٍ جماعيةٍ صامتة في دير البلح في غزة.


كل جسد منها يحمل حكايةً لم تُروَ بعد، لتظلّ القصص معلّقةً في صمت المقبرة، ويظلّ وجع العائلات الفلسطينية ممتداً في كل بيتٍ وذاكرةٍ ونبضة من نبض هذا الشعب.

بعض الجثامين التي سُلّمت في عملية التبادل، كانت منزوعة الأعضاء الداخلية، محشوةً بأكياس النايلون والقطن، كأن الجريمة لم تشبع من ضحاياها بعد.


لم يدرِ أحدٌ أن هذا الجثمان المسمّى "مجهول الهوية" هو آخر ما تبقّى من عائلةٍ مزّقتها القذائف أشلاءً،


فكيف تنتظر فرق الروتين الإداري، إفادة من فراغ الموت؟


 ولا خطر ببال أحدٍ أن يسأل الأشلاء — لا الأشقاء — عن هوية هذه الجثامين. فهذه الأشلاء هي آخر من تبقى من العائلة لتتعرف إلى بعضها بعضاً.


لم يدرك الباحثون في المقابر أن عليهم أن يُصغوا إلى التراب نفسه، فقد تنطق المقبرة بالحقيقة حينما تصمت كل الدول، وتغيب كل الضمائر.

يقول الخبر الصحافي إن الجثامين دُفنت بعد استيفاء المهلة المحددة بخمسة أيام، ووُثِّقت وصُوِّرت مع متعلقاتها قبل أن تُوارى في قبورٍ مرقّمة.
لكننا نحتاج إلى خمسة قرونٍ كي تنسى الأرض نبض ترابها، فالأرض لا تنسى، ولا تحتاج أرقاماً.

ستحكي المقبرة يوماً قصة الأجساد التي التحمت ببعضها بعضاً حتى لم تعد تفرّق أيّ جزءٍ ينتمي إلى من، لأنهم جميعاً اتّحدوا في الألم والمصير.
غير أن السؤال الأشدّ قسوة: ماذا عن المقابر المتحرّكة في هذا الوطن العربي الكبير؟


تلك التي تمشي على قدمين، تضجّ جثثها بالحياة من دون أن تُسمَع لها أنفاس، بلا أسماءٍ ولا ملامح، معروفة فقط بأرقام على هواتف متحركة!

مقابر غزة المجهولة الأسماء، المعلومة بالألم، قد تنهض يوماً ما حينما تستعيد كرامتها المصلوبة.


لكن كيف نسكت ضجيج مقابرنا المتحرّكة — ونحن أحياءٌ موتى — لا نكفّ عن الصمت، والموت خجلاً من رؤيتنا لذواتنا؟


ذاك سؤالُ الدهشةِ المؤلمة، سؤالٌ لا ينتظر جواباً، لأنه يعرف أن الإجابات دُفنت منذ زمنٍ بعيد.

وليس بعيداً من مأساة المقابر المعروفة بالقهر، يمكننا أن نقرأ واقعاً عربياً يقترب من أن يتحوّل إلى وطنٍ كاملٍ من المقابر.


نظرةٌ واحدةٌ إلى الخريطة تكفي لنرى محاولات إعادة رسمها من جديد، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكأن استقلال الدول كان مجرد استراحةٍ مؤقتةٍ بين استعمارين.


فالتغيير مستمر، لكن ليس نحو النهوض، بل نحو التشظّي والانقسام الذي يخيّم على المنطقة.

وما يجري في السودان وليبيا واليمن وسوريا وفلسطين — وسبقتها الصومال — يثير قلقاً لم تعرفه الأمة من قبل.


فهل ترسم الأحداث خريطةً جديدةً، أم تخرج المنطقة من نكبتها لتدرك أن بقاءها بؤرةَ صراعٍ لا يُبقي ولا يذر هو فناءٌ لروحها ومستقبلها؟


أسئلةٌ معلّقةٌ في سماءٍ تبحث عن حريةٍ ضائعة، وعن كرامةٍ اختنقت تحت ركام العجز والتواطؤ.

ومقابر غزة وحدها، أعادت الضوء إلى المشهد العربي الأكثر وجعاً — لا لأنها فقط القلب الفلسطيني النابض للأمة — بل لأنها المرآة التي تعكس حجم الإهانة التي يتعمّد اليمين الصهيوني أن يوجّهها لكلّ ما تبقّى من إنسانيةٍ في هذا العالم.

لستُ متشائماً إلى الحدّ الذي يفضي إلى القنوط، كما قد يظن البعض، فحينما نبلغُ مرحلةَ الإحساس بالإهانة، ندرك أننا ما زلنا أحياء، وأن فينا جذوةً لم تنطفئ بعد في رماد الانكسار.


ما دُمنا نشعر بالوجع، فثمة أملٌ بأن تنهضَ مقابرُنا المتحركة من سباتها،
وأن تستعيدَ الأوطانُ عافيتَها، وان لا تذهب ماشية إلى قبورها.
فالإحساسُ بالوجع هو أوّل نداءٍ للحياة.

 

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 11/2/2025 7:34:00 PM
أفادت شبكة "سي أن أن" الأميركية، استناداً إلى مصادر استخباراتية أوروبية، بأن هناك دلائل إضافية على جهود الجمهورية الإسلامية لإعادة تأهيل قدرات وكلائها، وعلى رأسهم "حزب الله"
كتاب النهار 11/3/2025 5:40:00 AM
يكفي الفلسطينيين إساءة الى لبنان الذي حضنهم، وإساءة الى اللبنانيين على مختالف فئاتهم ومكوناتهم
ثقافة 11/1/2025 8:45:00 PM
بصمة لبنانية في مصر تمثّلت بتصميم طارق عتريسي للهوية البصرية للمتحف المصري الكبير.
ثقافة 11/2/2025 10:46:00 AM
"والدي هو السبب في اكتشاف المقبرة، وكان عمره وقتها 12 عاماً فقط سنة 1922."