إعمار غزة للمرة الخامسة
فقط في هذا القرن الذي مضى منه 25 عاماً، التأمت أربعة مؤتمرات دولية عنوانها واحد، "إعمار غزة"، بين عامي 2008 و2023. فقد شهدت الساحة العربية والدولية سلسلة من المؤتمرات واللقاءات والتجمعات التي عقدت تحت ذلك الشعار. وعلى الرغم من كثرة التعهدات المالية أو الوعود المعلنة، فإن التنفيذ الفعلي ظل محدوداً لأسباب كثيرة مختلفة، منها الحصار الإسرائيلي الدائم على غزة والضفة، والانقسام السياسي الفلسطيني، والفرق بين الحماس اللحظي ودفع المال.
في كانون الثاني/يناير 2009 نظم الصندوق الكويتي للتنمية بالتعاون مع منظمات عربية وإسلامية مؤتمراً عقب العدوان الإسرائيلي على غزة في كانون الأول/ديسمبر 2008، شاركت فيه دول خليجية ومؤسسات مانحة، وبلغت التعهدات وقتها ملياراً ونصف المليار دولار منها 200 مليون من الكويت عبر الصندوق الكويتي، إلا أن المليار الموعود لم يتحصل منه إلا القليل من الآخرين، وذهبت التعهدات الباقية إلى: إما التسويف أو الإرجاء، دون حتى اعتذار.
ثم عقد في العام الذي يليه مؤتمر شرم الشيخ بمصر في آذار/مارس 2009 بمشاركة أكثر من 75 دولة ومنظمة دولية. بلغت التعهدات في ذلك المؤتمر 4,5 مليار دولار لإعادة الإعمار، ودعم السلطة الفلسطينية، ونظم برعاية مصرية - نرويجية، والنتيجة نفسها تقريباً حدثت. فإن الأموال التي وصلت بالفعل من ذلك المؤتمر كانت أقل كثيراً مما وعد به. ثم جاء مؤتمر القاهرة في 2014 بعد حرب صيف 2014 الذي سميت عملية الجرف الصاعد، حضرته حوالي 50 دولة و30 منظمة دولية، ووصلت التعهدات هذه المرة إلى 4،4 مليار دولار، نصفها لإعادة إعمار غزة والنصف الآخر لدعم السلطة الفلسطينية، ومن جديد لم يتمخض ذاك الرقم إلا عن جزء منه. أما مبادرة قطر لدعم غزة والتي عُقدت في الدوحة عام 2019، فقد قدمت فيها قطر تعهدات بقيمة 480 مليون دولار لدعم غزة والضفة الغربية، منها 300 مليون دولار للمشروعات الإنسانية و180مليوناً لدعم الطاقة والرواتب. معظم هذه الأموال وصلت إلى "حماس"، واستخدمتها في الشؤون العسكرية بدلاً من الإعمار.
مؤتمر القاهرة الثاني بعد حرب أيار/مايو 2021 أتى أيضاً برعاية مصرية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، وأعلنت مصر تخصيص 500 مليون دولار لإعادة الإعمار، كما ساهمت قطر وتركيا والولايات المتحدة في برامج جزئية في هذا الموضوع، بعضها وصل بالفعل وبعضها لم يتحقق. ثم جاءت مبادرة المتابعة 2022 - 2023 لعقد مؤتمر المانحين واستكملت مشاريع الإعمار بتمويل مصري وقطري، أبرزها المرحلة الثانية من مدارس غزة ومبادرة إعمار غزة وبتمويل قطري بمبلغ 275 مليون دولار. ثم جاءت أحداث تشرين الأول/أكتوبر فتصحرت معظم غزة، وأصبح لدينا هياكل بشرية وهياكل منازل!
إجمالاً عقدت هذه المؤتمرات واللقاءات من أجل إعمار غزة، منها مبادرتان من الخليج، كويتية وقطرية، ومنها مبادرات مصرية ودولية. النتيجة أن بعض الأموال وصل وبعضها لم يصل، وما وصل لم يكن مراقباً في الإنفاق بدقة!
كل حرب في غزة تنتهي بوعود إعمار كبرى، ولكن ما يسمع في المؤتمرات يهدمه الواقع السياسي. والواقع السياسي هو الحصار الإسرائيلي الدائم، سواء في غزة أو في الضفة، خاصة في السنوات الأخيرة، التي تسلم فيها اليمين الإسرائيلي سدة الحكم، والذي يحاول أن يحقق ما يسميه إسرائيل الكبرى، وإجبار العالم على نسيان وطن فلسطيني.
ومن المعوقات أيضاً الخلاف الفلسطيني - الفلسطيني المزمن، وغير القابل للحل، مهما حاول الأصدقاء أو الحلفاء أو المحبون أو المبادرون إلى ذلك، فهو مرض عضال يحار العاقل كيف يفسره.
وتأتي الدعوة الخامسة هذه الأيام من مصر أيضاً للإعمار، ولكن السؤال المنطقي: ألم يتعود العالم على الوعود بدفع مبالغ الإعمار ثم النكوص عنها أو عن بعضها؟ وأيضاً ألم يتعود العالم على أن غزة تعمر، فتهدم ثم تهدم فتعمر، ثم تعمر فتهدم.... لأن القضية هنا هي ليست غزة أو الضفة الغربية، القضية هنا الصراع المستمر بين الشوق إلى دولة فلسطينية، والرغبة الإسرائيلية الجامحة بأن ينسى العالم تلك الفكرة!
حتى أخيراً وبعد الاتفاق الذي تم برعاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، نجد أن الحكومة الإسرائيلية تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، ولعل المثال الذي جرى مع وجود نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس في تل أبيب واتخاذ قرار من الكنيست الإسرائيلي بضم الضفة الغربية، ومع تخفيف هذا الأمر على أنه مشروع قد لا يتحقق، إلا أن ردة فعل نائب الرئيس الذي قال إنه شعر بالإهانة (!) دليل على الإصرار الإسرائيلي برفض حل الدولتين!
دون حل واضح المعالم للتوجه إلى حل الدولتين، عن أي إعمار نتحدث؟ هو تبديد للمال والوقت لأن إسرائيل تستطيع في أشهر قليلة أن تهدم ما عمّر في سنوات. وتوسع إسرائيل في الضفة الغربية عمل يجب أن يخيف العالم، لأن سياسة اليمين الإسرائيلي في الإبادة لم تتغير .
كما أن المال العربي أصبح منهكاً في التجوال بين إعمار جنوب لبنان، وإعمار غزة والضفة الغربية، وإعمار السودان وإعمار اليمن. كل هذه "الإعمارات"، إن صح التعبير، تحتاج إلى مال، ويتطلع كثيرون إلى أن المال يجب أن يأتي من الدول العربية المنتجة للنفط. ومع انحسار أو تواضع الدخل النفطي، وتعاظم برامج التنمية الكبرى التي تنفذ في دول الخليج، وانسحاب الدول الكبرى سواء الولايات المتحدة الأميركية التي لا تريد أن تصرف مالاً على هذا النوع من الإعمار والمشكلات التي تواجهها أوروبا الاقتصادية العميقة، والحرب الأوكرانية الروسية، كل ذلك يستنزف من رأس المال المتوفر في العالم من أجل الإعمار في أماكن أخرى.
نحن أمام قضية عميقة الجذور، تحتاج إلى شجاعة في المواجهة، وأيضاً إلى شجاعة في اقتراح وفرض الحلول على الأطراف المختلفة، ومصارحة القريب قبل البعيد.
مع الأسف الشديد أحد المعوقات الكبرى في القضية الفلسطينية هو الشقاق الفلسطيني - الفلسطيني، الذي يصل الألم بالسخرية، فالمجموعة التي اجتمعت في القاهرة من الفصائل الفلسطينية، تقدم حلولاً غير عقلانية وغير واقعية للمشكلة القائمة. تريد أن تشكل لجنة محايدة لإدارة غزة!! وتريد أيضاً قراراً من مجلس الأمن، وهذه أحلام غير واقعية لن تنتهي إلا بمعاناة إنسانية أشد لأهل غزة ولأهل الضفة، الذين يعانون معاناة فوق قدرة البشر !
ِ
نبض