بين لبنان وفرنسا: الصفقة مكان الدستور
لبنان الحديث هو صنيعة فرنسا الاستعمارية، في ثقافته الكثير من ثقافتها وهي ما زالت الراعية الدولية الأولى له عالمياً رغم النفوذ الاميركي المتمدد في كل مكان في هذا الشرق. لكن فيما تدير فرنسا نفسها وفق نظام رئاسي برلماني يتيح مخارج دستورية للأزمات السياسية المعقدة، يجد لبنان نفسه مخنوقاً بطبقة سياسية ليس الدستور ولا القانون، بالنسبة إليها، إلّا نصين خاضعين للتأويل والتفسير والتعديل والمزاج والمصلحة الفئوية.
قبل شهر ونصف الشهر تقريباً أسقط البرلمان الفرنسي حكومة فرانسوا بايرو، عاشت فرنسا أزمة سياسية حادة نتيجة الانقسام السياسي وعدم وجود أكثرية واضحة بين معسكرات البرلمان الثلاثة: اليسار واليمين واليمين المتطرف، فضلاً عن صعوبة ائتلاف إثنتين من القوى الثلاث الرئيسية في البرلمان. وفيما بدا أن البلاد ذاهبة نحو انسداد سياسي لا مخرج منه إلا باستقالة الرئيس الذي استنفد فرصه لحل البرلمان، فاجأ ماكرون الوسط السياسي بتكليف صديقه سيبستيان لوكورنو تشكيل حكومة جديدة في 5 تشرين الأول/أكتوبر، لكنها استقالت بعد يوم من تشكيلها لصعوبة حصولها على ثقة البرلمان بعدما أعلنت غالبية الكتل رفضها منحها الثقة، ليعيد ماكرون تكليف لوكورنو مرة جديدة نجح في نهايتها بتشكيل حكومة تحوز ثقة البرلمان.
لماذا سقطت حكومة 5 تشرين ونجحت حكومة 13 منه؟سقطت حكومة 5 تشرين الأولى لأن رئيسها لم يقدم التنازلات المطلوبة لإنجاز صفقة سياسية (لمصلحة المتقاعدين) ونجحت حكومة 13 لأن رئيس الجمهورية أدرك أن لا إمكان لإنقاذ حكمه وحكومته واقتصاد بلده المتدهور إلا بتقديم تنازلات وعقد الصفقة، وهكذا وعد الرئيس بتعليق قانون التقاعد الذي رفضه اليسار مقابل حصوله على تأييد نواب الحزب الاشتراكي وإنقاذ حكومته وعهده، في مواجهة تهديد انتخابي كبير من اليمين المتطرف.
أما الرابط بين الحدث الفرنسي والحدث اللبناني فهو رابط عكسي. في لبنان تشتد الأزمة السياسية حول إجراء الانتخابات النيابية في أيار/ مايو المقبل، وفيما يفترض في النظام البرلماني اللبناني أن يقر البرلمان قانوناً للانتخاب من بين اقتراحات عديدة يتم التصويت عليها، يتكرر الاحتقان السياسي مع كل استحقاق انتخابي (وغير انتخابي وعلى مستوى أدنى بكثير). يبدو الأفق مسدوداً تماماً بالأطر الدستورية والقانونية، وكل البحث يدور حالياً عن طريقة للالتفاف على القانون وتجنب تنفيذه، وكل طرف يسوق حججاً لا يقبلها المنطق ولا العقل، وكل الحرب دائرة الآن على ستة مقاعد كان القانون خص المغتربين بها ولم ينفذ هذا البند في الانتخابات الأخيرة وتدور المعركة حوله اليوم. انتخابات المغتربين عقدة مستعصية في بلد تستعصي كل مشاكله، حتى الصغيرة والتافهة على الحل، لا تشكل انتخابات المغتربين في أي بلد في العالم مشكلة على الإطلاق، مغتربو كل الدول ينتخبون حيث هم في السفارات والقنصليات، الا في لبنان حيث توزن الأصوات بموازين الحسابات الطائفية والمذهبية وحيث التوازنات في البرلمان ستتحكم بمستقبل البلاد التي تمر في مرحلة حساسة وخطيرة ترسم فيها مصائر شعوب وبلدان.
الخطير في الأمر أن الانتخابات كلها تصبح بعد فترة في دائرة التأجيل مرة بعد مرة، وهو ما حصل مرات سابقاً، على الرغم من التوقعات بأن أي مجلس مقبل لن يغير كثيراً في العقلية السياسية وطريقة إدارة البلد. تعطيل البلد من أجل حفنة من النواب أو من أجل مناصب أقل بكثير سمة ملازمة للكيان اللبناني، لا سيما منذ تعقدت تركيبته السياسية/ الطائفية باختراع كذبة سموها الديموقراطية التوافقية وذريعة سموها الميثاقية وبدعة سموها الوزارات والمناصب السيادية وترهات سموها الوظائف الحصرية للطوائف....
تتعقد الأمور ويرتفع سقف الخطاب وتختلط المصالح العامة بالمصالح الخاصة وتقفز العصبيات الطائفية والمذهبية وتوأد المبادرات، فيما ينشط في الكواليس البحث عن صفقات تكون غالباً على حساب الضعفاء، فيما يحاففظ الأقوياء على مواقعهم أو يكسبون نقاطاً جديدة. الأخير الذي قدم تنازلات فعلية من أجل حلحلة الانسداد السياسي في البلد كان سعد الحريري، وقد فعل ذلك مرتين، مرة بقبوله قانون انتخاب قلص عدد نواب كتلته إلى النصف ومرة عندما سهل انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، لكن اليوم لا يوجد من يتنازل، كلهم صقور، ولا بديل من التنازل إلا صفقة يخرج كل الكبار منها رابحين، ودائماً على حساب الوطن والمواطن.
نبض