بلد يغرق في قنينة ماء

فيما كان العالم مشغولاً بالسلام الآتي إلى الشرق الأوسط وبقمة شرم الشيخ التي شهدت توقيع اتفاق وقف النار في غزة بزعامة الرئيس الأميركي دونالد ترامب المزهو بإنجازه العظيم، كان اللبنانيون مشغولين بحدث آخر حجب الحدث الكبير وحجّم تصريح الرئيس اللبناني جوزف عون عن ضرورة التحاق لبنان بتسويات السلام الموعود.
قنينة ماء هزت البلد، قرار من وزارة الصحة يفيد بتلوث مياه شركة "تنورين" لتعبئة مياه الشرب ببكتيريا ضارة، أقام الدنيا ولم يقعدها.
ليس مهماً ماذا حصل بعد القرار من تحاليل ومن قرارات برأت الشركة، هذا شأن إجرائي، والحدث يمكن أن يحصل في أي مكان في العالم، وقد سبق أن حصل مثله في فرنسا عندما ظهر قبل سنوات قليلة تلوث بكتيري في قناني مياه شركة "بيرييه" وهي أشهر شركة مياه غازية معبأة في العالم، وقد اعتذرت الشركة وسحبت منتجاتها المشبوهة من الأسواق وأوضحت أسباب التلوث متعهدة عدم تكرار الحادثة.
نصب اللبنانيون أنفسهم خبراء بيئيين وأطباء وعلماء في الأمراض الجرثومية ومحللين اقتصاديين وسياحيين وأدلوا بمعلوماتهم وتحليلاتهم التي لا تستند إلى أي أساس علمي أو منطقي.
لكن هذا لم يكن الوجه البشع للحدث، السوء كان في مكان آخر، في تحويل الحدث إلى حرب كلامية طائفية استخدمت فيها كل "الأسلحة" المباحة وغير المباحة.
هب المسيحيون، لا سيما أنصار حزب "القوات اللبنانية" للدفاع عن الشركة التي ينتمي أصحابها إلى بيئتهم والتي تتعرض في رأيهم إلى مؤامرة تهدف إلى تحطيمها لمصلحة شركات منافسة ينتمي أصحابها إلى طوائف أخرى.
واكتشف الشيعة أن شركة "تنورين" معادية لهم سياسياً وإيديولوجياً فهاجموها بضراوة وأقسموا أنهم لن يشربوها أبداً حتى لو أثبتت التحاليل اللاحقة عدم تلوث مياهها. ودخل الدروز على الخط وإن بشكل محدود باعتبار أن الشركة المنافسة لـ"تنورين" وهي شركة "أكوافينا" تملكها شركة "بيبسي كولا" التي تملكها عائلة درزية معروفة. ومما زاد الطين بلة أن وزير الصحة شيعي ووزير الزراعة الذي وقع القرار في غيابه درزي.
اختلط الحابل بالنابل وصارت القضية سياسية وجودية وهوياتية وانكشف الكثير من الكلام المخبوء تحت الألسن وفي "القلوب المليانة". واستمر الردح المقيت أياماً وانخرطت فيه وجوه معروفة من إعلاميين و"مثقفين" ومؤثرين في مواقع التواصل الاجتماعي.
أكدت الحادثة المؤكد، الطائفة وحزبها قبل الدولة، أسقط الداعون إلى سيادة الدولة منطق الدولة ومؤسساتها فاتهموها بالتزوير والتآمر، والجهل حتى، قبل أن تثبت التهمة أو تسقط علمياً، فيما تبنى معارضو الدولة التقليديون المنطق المعاكس متبنين موقف الدولة (ممثلة بوزارة الصحة والمستشفى الحكومي الذي أجرى فحص المياه).
ليست حادثة القنينة تفصيلاً عابراً في كل شيء فيه غير طبيعي ويكاد يكون ملوثاً من ماء وغذاء وهواء، فضلاً عن الفساد في ملف الدواء إلى آخر تجليات انحسار هيبة الدولة ووظيفتها حتى تلاشيها.
الحرب الطائفية التي شهدتها مواقع التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام التقليدية هي فضيحة وطنية وأخلاقية وتربوية من المرتبة الأولى، وهي تكشف عن ضحالة ثقافية وتنذر بردة شبه جماعية عن مشروع الدولة التي بدت عاجزة ومترددة وربما غائبة عن الساحة.
كان بإمكان وزارة الصحة وفور اندلاع "الحرب" الكلامية الطائفية إما أن تحسم السجال وتؤكد صحة تقريرها، أو أن تعلن أنها ستلجأ فوراً إلى إعادة الفحص في مختبرات جديدة، لكنها لم تفعل لا هذا ولا ذاك تاركة الأمور على غاربها أياماً عدة قبل إصدار تقريرها الثاني. وكان بإمكان الشركة أن تعلن بكل صراحة التزامها قرار سحب منتجاتها من السوق وأن تقبل بإجراء اختبارات جديدة، وفي ضوئها تتخذ الموقف المناسب. وللعلم فإن كبريات الشركات في العالم تسحب تلقائياً منتجات من الأسواق إذا تبين أن فيها خللاً ما، وهذا ليس عاراً بل دليل احترام للمستهلك وتجديد لثقته بالشركات ومنتجاتها. سحبت شركة "تويوتا" عشرات آلاف السيارات من السوق بعدما تبين وجود خلل في انظمتها وأصلحته على نفقتها فزادت ثقة المستهلكين بها ولم تهبط مبيعاتها وبقيت الأولى عالمياً، ومثلها فعلت "جنرال موتورز الاميركية" و"نستلة" السويسرية وشركات عالمية كثيرة.
حادثة القنينة فصل جديد من الحرب الطائفية التي لم تتوقف، وهي كغيرها من الحوادث المتكررة، تؤكد أن لا شيء "ماشياً" في البلد الذي تنتظره محطات كبرى في سياق تحولات المنطقة فيما يتخبط أهله في صراعاتهم الصغيرة المدمرة، ولا عجب أن لا يكون له كلمة في مصيره الذي يرسمه الآخرون، طالما أن قنينة مياه أغرقته.