"حزب الله" بين الدولة وإسرائيل

خاب ظن من اعتقدوا أن الضربة التي تلقاها "حزب الله" في الحرب الأخيرة كانت قاضية أو شبه قاضية وستجبره على مراجعة سياساته والتخلي عن فكرة العسكرة والصراع مع إسرائيل، متغافلين عن العقيدة التأسيسية للحزب ورؤيته إلى الكيان والدولة.
عندما قرر الحزب الدخول في حرب إسناد غزة لم يكن أمامه خيار آخر، ولم يكن، بحسب تصوره للصراع ومرجعيته السياسية والعقائدية ملزماً بإبلاغ الدولة أو استئذانها، فالقضية في نظره أكبر من الكيانات والحدود التي لا يعترف بها في عمق إيديولوجيته. التلكؤ كان يعني سقوط كل سرديته التي بناها خلال عقود متباهياً بقوته الصاروخية وبمفاجآت يخبئها للحرب القادمة وكان يعِد من خلالها بتحرير فلسطين ويرى الصلاة في القدس قريبة.
حصل ما حصل خلال السنتين الماضيتين وها هو الحزب يجد نفسه، ومعه لبنان كله، أمام تحديات تضع مصير البلد على كف عفريت إذا ما استمر التجاذب السياسي القائم حالياً في مفاقمة حال الانقسام الحاد، سياسياً وشعبياً.
صحيح أن الحزب تلقى ضربة موجعة خلال الحرب، لكنه يرفض اعتبار ذلك هزيمة له كما يروج خصومه في الداخل اللبناني وفي الخارج. في أدبياته وخطابه يواصل سردية الانتصار نفسها، وإن كانت بيئته تقرّ ضمناً بفداحة الخسارة التي أصابتها. والواقع أن لا خيار آخر لدى قيادته، غير شد العصب والوعد بانتصارات قادمة.
أقنع الحزب بيئته خلال سنة أنه انتصر، بدليل أن إسرائيل لم تستطع التوغل أكثر من كيلومترات قليلة في الشريط الحدودي وأن سلاحه منعها من ذلك، وأنه مستهدف من الداخل والخارج وأن البيئة كلها مستهدفة وأن السلاح وحده يحميه ويحميها في مواجهة العدوان الإسرائيلي المتمادي (وفي مواجهة الداخل). ما زال الحزب ينزف، تخوض إسرائيل حرب استنزاف تستهدف مواقعه وكوادره الذين يقتلون يومياً في سياراتهم وعلى دراجاتهم أينما تنقلوا، وهو يلوذ باتفاق وقف النار الذي لم يحمه ولم تلتزمه إسرائيل التي تفسر بنوده على أنها تعطيها الحق في ملاحقة أي تهديد تراه في تحركات الحزب.
يخوض الحزب مواجهات سياسية حادة في الداخل اللبناني، بعد العزلة السياسية والمالية التي فرضتها الولايات المتحدة والغرب عموماً على موارده المالية من المغتربات ومن إيران ومن المتمولين الشيعة في العالم، وهي مواجهات تجمّد حركة البلد كله.
ليست الاعتداءات الإسرائيلية اليومية التحدي الوحيد الذي يواجه الحزب، وهو يقف مكتوف الأيدي تجاهها مكبلاً بالوقع الميداني وميزان القوى المختل قبل أن يكون مكبلاً باتفاق وقف النار.
استطاع الحزب أن يستقطب الطائفة الشيعية حول خطابه ومظلوميته في مواجهة ما اعتبرته أكثريتها هجمة عليها بهدف إضعاف موقعها في خريطة السياسة اللبنانية ونزع أوراق قوتها، لكن الواقع ان هناك أيضا تبرماً داخل شريحة معتبرة من الطائفة مما آلت إليه أوضاعها وحتى من الخطاب التصعيدي والإصرار على الخطاب الحربي وكأن شيئاً لم يحصل. ما يقال في البيوت غير الذي يعلن على الشاشات وفي مواقع التواصل الاجتماعي. مازال سكان عشرات القرى الحدودية المدمرة مشردين من قراهم بلا مساعدات ولا اهتمام بأوضاعهم وبلا وعود بالإعمار حتى. لقد جففت المنابع وقطعت طرق الإمداد الايراني. الحصار خانق والسخاء الذي أعقب حرب تموز/ يوليو 2006 صار مجرد ذكرى. النازحون من بيوتهم في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية يمثلون عبئاً كبيراً على الحزب، وهو عبء تبدو الدولة غير جاهزة لتحمله، وقد لا تريد ذلك، بحجة أنها لم تعلن الحرب وعلى من تسبب بالمشكلة أن يحلها، ولأنها في كل الحالات مفلسة وتعمل على تأمين موازنة تقشفية من أموال المواطنين الذين يفاجأون بزيادة التعريفات المتكررة على الخدمات العامة السيئة وبالضرائب المقنعة.
يخوض الحزب مواجهة سياسية حادة مع خصومه السياسيين حول التمثيل السياسي والانتخابات التشريعية وخصوصاً حول سلاحه. يحمّل الحزب الدولة مسؤولية تحرير النقاط التي لا تزال إسرائيل تحتلها ومسؤولية إعادة الأعمار ويطلب منها مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، فيما تخوض بيئته حملة تخوينية ضد رئيس الحكومة نواف سلام وضد أي جهة أخرى وأحياناً ضد رئيس الجمهورية جوزف عون. وفي الموازاة يتعرض الحزب لحملات مشابهة من بيئات طائفية أخرى، حتى باتت حرب الطوائف سجالاً تزداد حدته يوماً بعد يوم.
لم تُغيّر الحرب الإسرائيلية على "حزب الله" المعادلات اللبنانية الداخلية، وتل أبيب لا يهمها كثيراً تغيير هذه المعادلات، بل لربما تريدها أن تتفاقم ويتصاعد التوتر الداخلي على قاعدة "فخّار يكسّر بعضه"، طالما أن الوضع القائم يضمن لها إلى أمد غير محدد السيطرة على الحدود وعلى الأجواء ويطلق يدها في كل مكان، لا سيما بعد توقف الحرب على غزة الذي يعزز فرضية يتم تداولها عن تفرغ إسرائيل لحرب جديدة على "حزب الله".