عصا الفيدرالية وشرخ الديموقراطية

لم يكن نزول القوات الفيدرالية إلى شوارع المدن الأميركية مشهداً مألوفاً. فهذه الأرض التي طالما افتخرت بأنها تُدار بقوة القانون المحلي واحترام خصوصيات الولايات، وجدت نفسها فجأة أمام ارتطام مباشر بين المركز والهوامش. كأن الصورة التي اعتاد الأميركي أن يراها في عواصم بعيدة، وقد حملتها نشرات الأخبار من دول مضطربة، عادت لتطل برأسها في عقر داره، في قلب الولايات المتحدة. كان المبرر المعلن بسيطاً: السيطرة على الفوضى، لكن الرسائل المضمَرة كانت أعقد بكثير.
فمن كاليفورنيا إلى واشنطن العاصمة، وصولاً إلى بورتلاند، تتكرر الحكاية: قوات فيدرالية تُستدعى بحجة حماية النظام، لكنها في العمق تقدم عرضاً سياسياً يُراد له أن يُقرأ بعناية. واللافت أن الشارع الأميركي لم يستوعب هذه الخطوة بسهولة؛ إذ إن إدخال الجيش أو عناصر الأمن الفيدرالي إلى مواجهة الشارع دون هدف مستحق، يضرب في الصميم تقليداً سياسياً جرى على احترام سلطة الولايات، ويضع المواطنين أمام واقع لم يألفوه: أن تُدار الأصوات الغاضبة بالسلاح عوضاً عن الخطاب، وبالمداهمات لا بالمفاوضات.
المفارقة أن ما يحدث يجري في "أرض المهاجرين"، حيث تأسست الهوية الأميركية على وعد الحرية وحق الاختلاف. فإذا بالأرض ذاتها تنقلب على وعدها، وتستبدل صورة الملاذ بصورة أخرى. وهذا الانقلاب ليس صدفة، بل هو جزء من مشهدية أكبر تُكتب بعناية، هدفها أن يظهر الرئيس بصورة الحارس الصارم، القادر على إخضاع الشوارع المتمردة، وأن يُعيد إلى ذاكرة الناخب صورة "الرجل القوي" الذي لا يتردد في استخدام كل ما يملك من أدوات حتى لو كانت على حساب الأعراف الدستورية، في مقابل ما يسميه "تساهل الليبراليين".
لكن وراء هذه المشهدية يطل سؤال أعمق: هل الغاية فعلاً إعادة فرض النظام، أم أن الأمر لا يعدو كونه خطوة لتهيئة الأرضية لانتخابات مقبلة؟ إن صورة الرئيس الذي يقف بوجه الولايات "الجامحة" قد تستهوي جزءاً من القاعدة الشعبية الباحثة عن الصرامة، لكنها في الوقت نفسه تُعري الانقسام الداخلي وتدفع بالولايات المتحدة إلى مشهد لم يعتده العالم عنها. واشنطن التي قدّمت نفسها لعقود راعيةً للديمقراطيات، وبنت سمعتها على نشر القيم السياسية والبرامج التنموية خارج حدودها، تجد نفسها اليوم عاجزة عن حماية ديمقراطيتها من نفسها.
أبعد من البعد الانتخابي المباشر، تفتح هذه الإجراءات الباب على تأويلات دستورية خطرة. فالصلاحيات التي وُجدت لمواجهة أخطار تهدد الاتحاد باتت تُستخدم لإخضاع الشارع الأميركي، ما يخلق سابقة يمكن أن تجرّ المستقبل إلى مزيد من التصعيد كلما اصطدم البيت الأبيض بمعارضة محلية. وما يُسوَّق على أنه حماية للقانون قد يكون في الحقيقة خطوة نحو تطويع الدستور، وجعل الاستثناء قاعدة. وهنا تكمن الخطورة التي لا تتعلق بالحاضر وحده، بل بما يمكن أن يُرسم للغد.
وفي النهاية، يقف المراقب أمام مشهد يحمل كل تناقضات اللحظة الأميركية: رئيس يسعى إلى ترسيخ صورته بوصفه الضامن للأمن، بينما تترنح صورة الاتحاد أمام الداخل والخارج معاً. فما بدا في البداية ورقة مألوفة في تاريخ الأنظمة السلطوية، بدا غريباً وصادماً حين طُبق في قلب الولايات المتحدة. والنتيجة أن السعي إلى استعراض القوة لم ينجح في طمس الحقيقة الأعمق: أميركا تكشف اليوم ضعفها في المكان الذي ادّعت فيه قوتها، وتواجه بأدوات القمع ما طالما ادّعت أنها تحميه بالحرية.