كتاب النهار 03-09-2025 | 17:26

ليس لبنان بلد الأكثريات

الحرية التي قام عليها لبنان لا تُترجم بظاهرة التجوال بالدراجات تبثّ الفرقة والتهديد. ولا بالمجموعات التي تجتاح الطرق وهي تردد ذلك الكلام الذي لا يليق بطائفة مطلقيه.
ليس لبنان بلد الأكثريات
بيروت. (النهار)
Smaller Bigger

لبنان تمرّد على الظلام. تمرّد على الدماء تسفك من أجل الآخرين. إنه صدَّ الأيدي العابثة بالأمس كما اليوم، تحاول الامتداد إلى مكامن أسراره. لأن للبنان أسراراً لا تُدركها إلا الأيدي الصديقة تلك التي تلتقي مع النور، ومع الحرية.

 

الحرية التي قام عليها لبنان لا تُترجم بظاهرة التجوال بالدراجات تبثّ الفرقة والتهديد. ولا بالمجموعات التي تجتاح الطرق وهي تردد ذلك الكلام الذي لا يليق بطائفة مطلقيه. هؤلاء لا يعرفون أنه قبل أن يخسروا معاركهم كان سبقهم إلى الكرامة جيش جنوبي من نوعٍ آخر، جيش من الشعراء والمبدعين. أتذكرون؟ شعراء الجنوب الذين بنوا عوالم قامت على أكتاف حملة الزيتون والسنابل كما أنشدت فيروز. فاستبدلوا السنابل بالبنادق وخسروا، لأن قضيتهم لم تكن لبنان.

 

ليست الحرية التي استباحوا معناها هي التي قام عليها وطن الاختلاط. هذه محاولة سطوة على الآخر باسمها. وكم من الجرائم ارتُكبت باسمها على لغة مدام رولان، وهي على بعد أمتارٍ من المقصلة عام ١٧٩٣ أثناء أحداث الثورة الفرنسية حين صاحت: "أيتها الحرية كم من الجرائم تُرتكب باسمك".

 

حرب الإسناد لم تكن قراراً حراً. كانت دماراً للبنان، وما زلنا ندفع أثمانه الشديدة الوطأة. المرجعية الإيرانية ليست ممارسة لحرية الاختيار. إنك لست حراً في أن تختار وطناً آخر ما دمت لبنانياً بالولادة والهوية والانتماء. الحرية لا تكون بفرض سيطرتك على الآخرين بقوة السلاح. وبسبب كل ذلك خسر أصحاب هذه الخيارات والممارسات ما خُيل إليهم أنها قضية. وهي خاسرة حكماً لأنها ليست لهم، ليست لأرضهم، ليست للبنان. دماء الشهداء تعود إلى الأرض والتراب، وهذه لم تكن شهادة الآلاف من أبناء الجنوب.

 

كان للجنوب بناةٌ، وضعوا الحجارة الأولى مثلهم مثل أبناء الطوائف الأخرى، بعدما شاركوا في مؤتمر فرساي وإنشاء لبنان الكبير عام ١٩٢٠. كان للجنوب بيوتاتٍ كبيرة. موسوعة هو الكتاب عن القامة الجنوبية يوسف الزين، والذي وضعه المفكر والأستاذ الجامعي منذر محمود جابر. فروى سيرته في كتابٍ من أكثر من تسعمئة صفحة وكيف نشأ لبنان وكيف كان المواطنون الجنوبيون صورة صادقة عن لبنان ذاك، بعائلاته وصداقاته بين البيوت، وبخاصة تلك التي قامت بين آل عازوري في عازور وآل الزين في كفررمان. إذ ليس من باب الصدفة أن يقوم وارث هذا البيت المحامي كلود عازوري بالذات بإهداء هذا الكتاب المرجع عن يوسف الزين إلى أصدقائه، وما يتضمنه من توصيف لمجتمع الجنوب كما كان عليه يوم نشوء لبنان، ولما قام من صداقة بين البيتين الجنوبيين كما في سائر لبنان.

 

هذا الماضي المضيء هل هو في طريق العودة اليوم؟ الأزمنة التي عشناها انتهت. عاد لبنان إلى الأصول، إلى الجذوع التي لا يمكن أي عاصفة أن تنال منها. لأن جذوع لبنان أصلب جذوعٍ في الشرق، صنعها الدهر بأيدي الباحثين عن هواء الجبال والوديان والشواطئ، والتي لم يعرفها أي بلدٍ آخر في هذا الشرق.

 

منذ أيام جاءنا الوفد الأميركي المعروف. وقد سال حبرٌ كثيرٌ على كلام توم برّاك. وكانت هذه الصفحات في طليعة من نبّه إلى كلامه الخطر عن العودة إلى بلاد الشام. ولكن الكلام الأخطر ليس هو ذاك الذي وجهه إلى الصحافة. بل كلامه على أعداد أبناء الطائفة الشيعية التي قال إنها تمثل بين ثلاثين وأربعين في المئة. من أعطاك هذا الرقم يا مستر برّاك؟ إن الحديث عن أعداد أبناء الطوائف لا يُجدي نفعاً في لبنان، لأن المهم هو الحفاظ على مقومات النشوء التي كانت ولا تزال تقوم على ركيزتين: الوفاق والحرية. أما مرتكزات الدولة فشأنها آخر.

 

فأنت يا مستر برّاك مواطن أميركي يدين بالولاء للحزب الجمهوري. ولكن إذا أردت ذات يوم أن تتبع الأكثرية الحاكمة فإنك بكل بساطة تنتقل إلى الحزب الحاكم الذي قد يكون الحزب الديموقراطي. في لبنان ليس من أكثرية طائفية حاكمة، ولا أكثرية سياسية حاكمة. ولذلك لا يمكن أيّا من أبناء الطوائف أن يلتحق بالأكثرية الحاكمة. إبقَ مكانك أيها المسيحي، أمارونياً كنت أم كاثوليكياً أم أرثوذكسيا أم سريانياً... وكذلك أنت أيها السني والدرزي والشيعي والعلوي. إنكم متساوون، ولبنان لكم جميعاً. ليس لأحدٍ منكم أكثر مما هو لغيركم. فيا مستر برّاك تفضل وأوقف الكلام العشوائي. الشيعة ليسوا أكثرية عددية، ولا يمكن أي طائفة، مهما بلغ عدد أفرادها، أن تدعي أنها أكثرية بالنسبة إلى المجموع. هذا واقعٌ يجب أن يتوقف عنده من هم في الداخل قبل الخارج، لأن هنالك من همس في أذن براك وقبله في أذن لو دريان بأن الشيعة أكثرية. ثم ماذا بعد؟ هنالك الآخر، هنالك الآخرون. كما هو الحال اليوم.

 

جميع أبناء الطوائف الأخرى حملوا السلاح أيام الحروب. ثم تخلوا عنها. كانت حروباً بعضهم مع البعض الآخر. بخلاف اليوم. بخلاف اليوم جذرياً، لأن السلاح هو لقضية خارجية معروفة، ومندوبوها حاضرون في لبنان مباشرة أو بالواسطة. ومخابئ الأسلحة والصواريخ التي يكتشفها الفرنسيون من القوة الدولية دليلٌ على ذلك. مواجهة إسرائيل شأن الدولة اللبنانية. سوريا، في علاقاتها المستجدة مع إسرائيل تعود اليوم إلى عام ١٩٧٤، غداة الانتهاء من ذيول حرب ١٩٧٣. أما نحن فليس لنا سوى اتفاقية الهدنة لعام ١٩٤٩.

 

قبل إعادة إعمار الجنوب وقد مُحيَ عددٌ غير قليل من قراه فيه، هنالك إعادة إعمار من نوعٍ آخر، هو ذلك البنيان الذي شيده لبنانيو الجنوب مع إخوانهم من سائر الطوائف والمناطق. وهو تاريخٌ شاهدٌ حتى الآن. وليس هنالك من بديلٍ غيره، كما ليس هنالك بديل من الوفاق اللبناني الذي هو تاريخه ومبرر وجوده ومستقبله. ابحثوا فقط عن تاريخ حماية هذا الوفاق، وتخلوا عن تجارب الغلبة وما يوازيها من مساوئ الحصص. 

 

لا حلّ آخر للجنوب كما للبنان، لأن هنالك مبررات للوجود هي نفسها مبررات الاستمرار، ولكن مع الأخذ في الاعتبار كل التجارب وآخرها تجارب الأمس.

   

 

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

شمال إفريقيا 10/6/2025 7:23:00 AM
فرض طوق أمني بالمنطقة ونقل الجثتين إلى المشرحة.
سياسة 10/5/2025 3:09:00 PM
تابعت: "إن الدستور اللبناني يكفل المساواة بين اللبنانيين، مقيمين كانوا أم مغتربين. وتحقيق هذه المساواة يقتضي تعديل القانون الحالي بإلغاء المادة 112، بما يسمح لكل مغترب بالاقتراع في بلدته الأم".
مجتمع 10/4/2025 12:02:00 PM
من المتوقع أن تتأثر المنطقة اعتباراً من بعد ظهر الثلاثاء بمنخفض جوي متوسط الفعالية مركزه شمال غرب تركيا.
مجتمع 10/4/2025 3:23:00 PM
العملية تأتي في إطار الحملة الأمنية التي ينفذها الجيش في المنطقة لضبط المطلوبين ومواجهة التفلّت الأمني منذ ساعات الصباح الأولى.