فلسطين... بين الانتفاضة والمحرقة

في كانون الأول/ ديسمبر 1988 كانت الانتفاضة الفلسطينية الكبرى في أوجها، وكانت صور المواجهات تتدفق على وسائل الإعلام، من مخيمات غزة في الجنوب إلى قرى شمال الضفة ومخيماتها، مروراً بمدن الجبال الخمس، ولم تكن "انتفاضة أطفال الحجارة" كما أطلقت عليها البلاغة الشعبية والرطانة السياسية المبتذلة، وحبستها في مشهد أولاد يلاحقون "الميركافا" بالحجارة، بقدر ما كانت انتفاضة شعبية عارمة شملت طبقات المجتمع الفلسطيني وأجياله ومؤسساته الأهلية، وبنت نظاماً نادراً من التكافل الاجتماعي عبر شبكة من اللجان المتخصصة بدعم الحياة اليومية وتوفير الخدمات المعيشية والتربوية والصحية والاقتصادية. الثابت الآن هو أن الانتفاضة وآلياتها وتطورها كانت مفاجئة تماماً لأجهزة الأمن الإسرائيلية، كانت، كما ذكر محللون إسرائيلون، "فشلاً استخبارياً استراتيجياً"، ولكنها في الوقت والقوة نفسيهما كانت مفاجئة لقيادة منظمة التحرير التي كانت تعيش أقسى أوقاتها، وعلى وشك التفكك بعدما تم تجفيف مصادرها المالية والقفز عنها سياسياً، فظهرت مثل يد من السماء انتشلتها من أمام فرقة الإعدام التي تهيأت بمواجهتها.
كانت صورة الجنود الأربعة الذين يكسرون بالحجارة أذرع الشابين (وائل وأسامة جودة)، على سفح صخري في أراضي قرية "عراق بورين" قرب نابلس، قد تحولت إلى تسونامي يتجول في الصحافة الغربية، الصورة التي التقطها بالصدفة موشي ألبرت مصور وكالة "سي بي إس" الأميركية للشابين، وهي الصورة التي أنقذتهما.
لم يكن الأمر حادثاً فردياً، كان الجنود ينفذون تعليمات واضحة ومعلنة من وزير الجيش الإسرائيلي، في حينه، الجنرال إسحق رابين، الذي كان رده على الانتفاضة بتكسير عظام الشبان بالحجارة نفسها.
التقط ياسر عرفات بحسه السياسي الواقع الدولي والإقليمي الذي نشأ خلال الانتفاضة، وحوّل الأمر إلى برنامج سياسي لمنظمة التحرير، أعلن "الدولة الفلسطينية" وقدم إلى العالم "وثيقة الاستقلال" التي صاغها محمود درويش وإدوارد سعيد، وعانق جورج حبش أيقونة اليسار الفلسطيني، وبدأ ما أطلق عليه "هجوم السلام" وما سينحت منه في ما بعد شعار "سلام الشجعان" ليمرر اتفاقيات أوسلو.
هذا تقريباً كان المشهد عشية خطاب عرفات الذي كان مقرراً في اجتماعات خاصة بفلسطين في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، ولكن الإدارة الأميركية، في ذلك الحين أيضاً، رفضت منحه تأشيرة دخول إلى الولايات المتحدة، كان القرار مثيراً للجدل وخارج التقاليد ونص التزامات الولايات المتحدة دولة المقر. كان التوازن الدولي ما زال يسمح باتخاذ قرار نقل أعمال الاجتماعات الخاصة بفلسطين من نيويورك إلى جنيف، حيث ألقى عرفات كلمته في 13 كانون الأول عام 1988.
الآن عشية أيلول/سبتمبر 2025 في اجتماعات الأمم المتحدة لن يحصل الرئيس الفلسطيني على تأشيرة لدخول الولايات المتحدة، رغم أن ثمة وعوداً بالاعتراف بالدولة الفلسطينية تنتظره هناك، اعترافات على مضض لم تصل إلى حد اعتماد برنامج عقوبات على إسرائيل، ورغم أنها تبدو متأخرة، إلا أنها جزء من ضغط الشارع الأوروبي على الأنظمة السياسية، وهو ضغط سيتراكم بقوة عشية الانتخابات، ولكن بدلاً من التقاط هذه الإشارات في العالم واستثمارها، يواصلون في رام الله سياسة "الانتظار" والتأمل وتدبيج الرسائل، وصوغ كلمة الرئيس التي ستقدم بدورها وعوداً حقيقية مقابل اعتراف مجاني.
ليس واضحاً بعد كيف ستتصرف الأمم المتحدة أمام المنع الأميركي، هل ستعتمد سابقة 1988 ونقل الجلسة إلى جنيف رغم صعوبة اتخاذ مثل هذا القرار، وليس واضحاً كيف سيلقي الرئيس الفلسطيني خطابه وعبر أي تقنية.
تصعب مقارنة عام 1988 بمشهد 2025، تصعب مقارنة ياسر عرفات وحيويته السياسية بمحمود عباس وحياديته الغريبة، تصعب مقارنة أدوات عرفات وردود فعله وحسه السياسي وشجاعته القادمة من فردية متقنة وجماعية منتقاة، بحاشية عباس ورطانة عبارته السياسية، فردية مشوشة وجماعية تفتقر إلى التعدد والشجاعة، تصعب المقارنة بين الانتفاضة التي اتكأ عليها عرفات لينقذ المشروع الوطني ويوحّد قواه ويستعيد منظمة التحرير، والمحرقة التي يعيشها الشعب الفلسطيني وعلامات تفكك المشروع الوطني التي تتراكم على الأرض، وسياسة "الانتظار" والتخفي التي يتبعها عباس.