أقام الموفدان الأميركيان إلى لبنان توم براك ومورغان أورتاغوس الدنيا ولم يقعداها خلال زيارتهما لبنان مطلع الأسبوع. الأول بإهانته الصحافيين اللبنانيين ووصف تصرفاتهم بالغوغائية والحيوانية من على منبر القصر الجمهوري في بعبدا، والثانية بتسريحة شعرها الجديدة بأنامل لبنانية. رجل تخلى عن لغته الديبلوماسية وانفجر معبراً، على الأرجح، عن تذمره من الفشل الظاهر لمهمته، وامرأة تحاول أن تغير النظرة السلبية تجاهها، هي العائدة إلى لبنان بعد فترة انكفاء أعقبت تصريحاتها "العدائية" ولهجتها المتعالية تجاه لبنان وبعض فرقائه السياسيين، فلجأت الى مصفف شعر لبناني كي يجمّلها لتصبح "نجمة" على السوشال ميديا وتنال نصيبها من المديح، وأيضاً التجريح. 
وجهان لسياسة واحدة يستلهمان خطاب رئيسهما المزاجي دونالد ترامب ومناوراته الكلامية المتقلبة بين الديبلوماسية والحدة الصارخة. لكن تصرف الموفدين الأميركيين يطرح على الصحافة اللبنانية خصوصاً والعربية عموماً إشكالية خطيرة تتعلق بالعلاقة بين السياسي (أو الرجل العام عموماً) والصحافي، وبشكل خاص الصحافي التلفزيوني والرقمي، بعدما انضم إلى المهنة مئات الأشخاص ممن لا علاقة أكاديمية لهم بالمهنة فارضين أنفسهم "إعلاميين" بقوة السوشال ميديا وسطحية المتفاعلين معهم ولهاث أصحاب مؤسسات وراء تضخيم عدد المشاهدات على حساب المضمون والمصداقية، لا بقوة المعرفة والكفاءة المهنية.
لقد أفرزت الطفرة الإعلامية منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي ثم ظهور السوشال ميديا موجة جديدة من "الإعلاميين" (ودائماً بين مزدوجين) الذين تجاوزوا الأكاديميا أو التفوا عليها ودخلوا هذا العالم من أبواب خلفية أو مواربة. هؤلاء ومؤسساتهم الساعية وراء زيادة عدد المشاهدات بأي ثمن نقضوا مسلمات كثيرة وقواعد ومبادئ وقيماً قامت عليها الصحافة الرصينة والجدية، وإنصافاً للحقيقة كان هذا النوع من الصحافة والصحافيين موجوداً في كل المراحل، لكنه لم يكن الغالب وكان يشار إليه بأنه صحافة صفراء أو هابطة.
صحيح أن الإعلام في العالم ليس مثالياً ولا متجذراً في أخلاقيته، لكن هناك حدوداً دنيا من التزام المهنية على الأقل إذا لم يكن ممكناً التزام الموضوعية والحياد التزاماً صارماً. وأول شروط ذلك الاستقلالية، الاستقلالية المادية والاستقلالية الفكرية والسياسية، لا يعني ذلك عدم الالتزام السياسي، لكن وضع هذا الالتزام جانباً عند ادعاء البحث عن الحقيقة وكشفها. يبدو الأمر معقداً جداً، فمن الصعب الفصل بين قلب الصحافي وعقله، بين التزاماته الشخصية والمقتضيات المهنية الحقيقية، فكيف الحال في لبنان كنموذج عربي؟
يشكل لبنان نموذجاً فاقعاً لنهاية عصر الإعلام، نعم نهاية عصر الإعلام، وليس نهاية الصحافة المكتوبة كما أشاع كثير من المعلقين والباحثين، إلا إذا ما زال هناك من يعتقد أن هذا الإعلام القائم هو إعلام. ليست النماذج الصحافية المهنية القليلة إلا خرقاً للقاعدة العامة وهي تصارع من أجل البقاء.
يعمل "الإعلامي" في لبنان في مؤسسة يملكها رجل السياسة أو الحزب أو الطائفة أو المذهب، يقبض راتبه منه ويضرب بسيفه، يمدح من يواليه ويعادي من يعاديه ويغير لون حبره كلما غير "معلمه" موقفه. هذا "إعلامي" مسيحي وذاك "إعلامي" سني وذلك "إعلامي" شيعي أو درزي. هذا "قواتي" وذاك حزب اللهي وذلك اشتراكي أو أملي أو عوني أو...هكذا يصنف الإعلاميون بحسب المؤسسات التي يعملون فيها وبحسب إنتماءاتهم الحزبية والطائفية. لا مسافة بين "الإعلامي" والسياسي إلا مسافة العداوة السياسية والإيديولوجية. انهم على دين أوليائهم يُعادون متى عادوا ويصالحون متى صالحوا.
ولا تستوي علاقة الصحافي بالمهنة إلا إذا استوت علاقته برجال الشأن العام سياسيين كانوا أو فنانين أو رجال مال ومصارف....، علاقة على مسافة لا مال فيها ولا هدايا ولا تكريمات من أي نوع، وإلا إذا وضع مهنيته قبل كل شيء، وهذا مستحيل أن يحصل في بلد وزع القانون فيه تراخيص المحطات التلفزيونية على الأحزاب والطوائف وزعمائها وأحزابها.
في زمن السعي إلى جذب الجمهور بأي وسيلة، والسعي الى الإعلان التجاري (والسياسي المدفوع)، والصراع الطائفي عبر الميديا والأزمات التي تكاد تفجر المنطقة بأسرها، يصبح الصحافي مروجاً وطرفاً، وهذه ليست مهمته الحقيقية.
 

كان حدثاً مستفزاً كلام الزائر الأميركي وأثار موجة استنكار كبيرة، لكنه كذلك يؤشر إلى نظرة سلبية تجاه الصحافة والصحافيين عبرت عنها تعليقات كثيرة في وسائل التواصل الاجتماعي وصل بعضها إلى حد الشماتة. 
إنها نهاية عصر الإعلام.