الشّرع... الصفحة الجديدة
أسئلة كثيرة كانت تتولد لدي في الطريق إلى لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع في قصر الشعب بدمشق، وأنا القادم من العراق المشتبك حيال التغيير في النظام وسقوط بشار الأسد، والأمر قد يكون ذاته بالنسبة للشخصيات العربية الرفيعة المدعوّة معي للمقابلة. فالتحول الذي جرى يفرض استحقاقات للدولة تختلف جذرياً عمّا قبل كانون الأول/ديسمبر 2024، على المستويين الداخلي والخارجي، ما يمثل تحدياً كبيراً للحكومة السورية.

داخلياً قد تكون طبيعة التعاطي مع التطورات محط اهتمام لما ستؤول إليه قضايا مثل شكل النظام، وتمثيل المكوّنات، وإنقاذ الاقتصاد، والتعاطي مع قوى الضد الداخلية، وهي ملفات معقدة لها ظروفها وفواعلها التي لا تتوقف بحكم التداخل والهواجس التي خلقتها لحظة الانعتاق للشعب السوري من نظام دموي. لذا فإن علاقات سوريا الخارجية قد تكون هي الأكثر اهتماماً بالنسبة لي، لا سيما أن المنطقة تشهد تحولاً جذرياً في موازين القوى وخطوط النفوذ التي تُرسم.
خارجياً، كان حديث الرئيس الشرع ينطلق من رؤية "الصفحة الجديدة" في علاقات سوريا مع الدول العربية والغربية، لذا كان لبنان حاضراً لديه، للقرب الجغرافي والإشكال التاريخي، للبدء بصفحة بيضاء وإلغاء إرث الماضي وعدم الالتفات إلى "الجراح التي سببها حزب الله"، رغم أنها غائرة في الجسد السوري، وأنّ ليس من مصلحة سوريا الدخول في حقل ألغام قد يعيدها إلى مواجهات لا رغبة فيها، لذا فهو يعتقد أن أي محاولة لزج سوريا في لبنان تُعد خطأً. كذلك فإن استمرار لبنان وفق مفهوم "الدولة الطائفة" سيؤدي إلى انهيار البلاد، وهذا ما قد يعطّل رؤيته لخطط اقتصادية مشتركة تؤدي إلى استقرار العلاقة بين البلدين.
بمقابل ذلك، ظهر الشرع أكثر وضوحاً في علاقته مع إسرائيل عندما ركز على أن إحياء الاتفاق الأمني لعام 1974 أو تعديله يمثل اختبار نيات لقادم العلاقة، مع إمكانية إشراف دولي ضامن للتطبيق، وشدد على أنه لن يتردد في اتخاذ أي خطوة تكون في مصلحة سوريا في علاقتها مع إسرائيل.
العراق كان محطة استذكار بالنسبة للشرع، لكنه الآن يعدّه فرصة اقتصادية ثمينة يمكن أن تكون أساساً لبناء علاقات ديبلوماسية رصينة، وهي في مرحلة التدرج الإيجابي والتعافي. ورغم وجود أصوات موهومة بخطر سوري على العراق، إلا أن ذلك لم يمنع التنسيق والتعاون لمواجهة المخاطر المشتركة مع الحكومة العراقية التي أظهرت قدرتها على التعاطي مع سقوط نظام بشار الأسد والانطلاق بمسارات جديدة. إلا أن "العراق أمام تحدٍ" في كل المستويات.
اللافت في رؤية الشرع للسياسة الخارجية هو إدراكه لأهمية الدعم العربي وكذلك الثقل الذي تتمتع به المملكة العربية السعودية، وعدّها أنموذجاً يمكن الاتكاء عليه مع دولة عربية أخرى قدّمت دعماً لا محدوداً من أجل نجاح التحول في سوريا. ولم يتناسَ الرئيس السوري الدور الذي تقوم به الولايات المتحدة في الحفاظ على وحدة سوريا ورفع العقوبات الاقتصادية أو في إعادة الاندماج مع المجتمع الدولي.
ثوابت جديدة يقدمها الشرع، استنتجتها من حديثه، أن مصلحة سوريا هي ما يحدد طبيعة سياستها الخارجية مع الدول، مستندة إلى مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. وأن العمق العربي هو الامتداد الحقيقي الذي سيؤمّن لها المزيد من النهضة والاستقرار. وأن بناء العلاقات يتم عبر تشاركية اقتصادية في المنطقة. وأن مبدأ الحروب ومشاهدها غير مرغوب فيه، رغم المحاولات لجر سوريا نحو صراعات خارجية بدوافع من دولة إقليمية حالمة بالعودة للسيطرة عليها. وأن سياسة الانفتاح على الجميع والواقعية المرنة داخلياً وخارجياً ستكون عنوان "الصفحة الجديدة" لسوريا.
نبض