النشيد الوطني عمره مئة عام: فهل كلنا للوطن؟

لن تبقَى الحسرات في التراب. آخر مشاهد الضرائح الجماعية في قرى الجنوب تُشير إلى أنها تحولت إلى زفراتٍ في الصدور. صدور جميع اللبنانيين، لأن الأوطان أجسادٌ متكاملة، فكيف إذا كان الوطن نهائياً حسبما نصّ أول سطرٍ في مقدمة الدستور اللبناني، وهو الدستور الوحيد في العالم الذي ينص على مثل هذا التأكيد؟ الأنين لعله أنين الزمان. لأنه يتجاوز الضرائح ومن فيها إلى ذلك السؤال الذي يشغل صدور اللبنانيين، وهو: كيف يعود جسد الوطن متكاملاً؟
كون لبنان اليوم، لبنان ما بعد الحرب، والحرب ما زالت أصداؤها في الأجواء، ونيرانها القاتلة من الشمال إلى الجنوب، لم يستعد بعد كل أقسام جسده. فأي جسمٍ ناقص في استطاعته أن يواجه الحياة والمستقبل؟
هذا ما يُدركه الجميع مع أهل الجنوب، لأن الأسئلة المتنوعة في ما يعود إلى الجنوب تتجاوز إعادة الإعمار إلى مسألتين أساسيتين هما: إلى أين سلاح المقاومة؟ وإلى أين ولاءَاتها؟ أي بالمختصر، إلى أين تلك البيئة التي كانت منذ منتصف القرن التاسع عشر من المكونات الأساسية للكيان اللبناني، وهي المكون الشيعي الموالي لـ"حزب الله" الذي ارتبط منذ نشوئه بمرجعية الجمهورية الإسلامية الإيرانية ولا يزال؟ هذه هي المشكلة اللبنانية الأساسية اليوم. لمن القرار؟ ولمن الغلبة في بلد اللا غلبة وبلد الوفاق؟ ولمن الحضور في الخارج في بلد التألق والعطاء الذي اختُصر ذات يوم من شهر أيلول/سبتمبر ١٩٨٩ بأنه "أكثر من بلد، إنه رسالة حرية ونموذج في التعددية للشرق كما للغرب"، وفقَ رسالة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني إلى جميع أساقفة الكنيسة الكاثوليكية في شأن الوضع في لبنان؟ وكلام البابا الراحل هذا صدر قبل شهرين فقط من اتفاق الطائف في تشرين الثاني/نوفمبر ١٩٨٩ الذي قال بنهائية الوطن، وذلك بعد بيان "اللقاء الإسلامي" الذي عُقد في دار الفتوى في تاريخ ٢٢ أيلول/سبتمبر ١٩٨٣: "وإن لبنان وطنٌ نهائي بحدوده الدولية، عربيٌ في انتمائه وهو لجميع أبنائه، عليهم واجب ولهم عليه حق الرعاية والمساواة(...)"، كما جاء في البيان يومذاك قبل أن ينتقل هذا التأكيد إلى الدستور.
فأي وطنٍ نُطلّ فيه بعد اليوم على العالم: لبنان المقاومة أم لبنان الرسالة؟ بالطبع إن الغالبية الساحقة من الشعب اللبناني، إن لم تؤيد بالتحديد كلام البابا فعلى الأقل تنادي بالوفاق وتحييد لبنان والانفتاح والحرية. علماً أنه لولا هذه الحرية لما كانت اليد الإيرانية العابثة تمكنت من السيطرة على القرار اللبناني من مختلف نواحيه. نقول اليد الإيرانية وليس "حزب الله" الذي أعلنت قيادته على الملأ وفي أكثر من مناسبة الولاء المطلق لإيران هذه، وليس من باب المصادفة أن يحضر كبار المسؤولين الإيرانيين يوم تشييع السيد حسن نصرالله في ٢٣ شباط/فبراير الماضي.
السؤال الذي قد يتبادر إلى الأذهان الطرية لتلامذة المدارس وهم يصدحون بالنشيد الوطني الذي نظمه الشاعر رشيد نخلة ولحّنه الموسيقار وديع صبرا قبل مئة عامٍ بالتمام، أي عام ١٩٢٥، هو: هل نحن ننتمي حقاً إلى وطنٍ واحد، ما دامت ولاية الفقيه في إيران هي مرجعية قسمٍ من الشعب اللبناني؟ ولماذا؟ وكيف حصل ذلك في تلك الغفلة الطويلة لعين الزمان، والتي كان من نتائجها اليوم بالذات أزمة مجيء الطائرات الإيرانية إلى بيروت، بعدما أُقفل الطريق على التواصل مع لبنان والإمدادات على أنواعها من خلال سوريا؟
لماذا أصبحت إيران الإسلامية مرجعية قسمٍ وافرٍ من اللبنانيين؟ وكيف تُستعاد تلك اللحمة الوطنية بين جميع مكونات المجتمع اللبناني، وهو المجتمع الوحيد في الشرق كما في الغرب، القائم على التنوع بهذا الكمّ من المعتقدات الدينية والمذهبية، ومفروضٌ فيه على الجميع أن يبقوا متفقين، لأنه ليس بينهم اختلافات عرقية أو لغوية، مثلما هو الحال في بلدان مثل سويسرا وكندا وبلجيكا وحتى إسبانيا في كتالونيا، بالرغم من أنهم جميعاً مسيحيون؟
شاءت التطورات أن تضع لبنان هذا في قلب صراعات المنطقة وتجعله ساحةً. فلم يهدأ لسنوات طويلة. لكنه لم يتغير، لأن هذا التكوين البشري الخاص يستمد أهميته من أنه أصيل وشديد القدم ومختلف عن جميع كيانات المنطقة. والعرب أدركوا ذلك منذ البدء. ومؤسـسو الجامعة السبعة في آذار/مارس ١٩٤٥ أدركوا تلك الخصوصية وأحبوها. وهم لا يزالون حتى اليوم أصدقاء تلك التجربة وأصدقاء ذلك البلد العربي المؤسـس للجامعة الذي وحده يترأسه رئيس مسيحي.
لبنان لن يتغير في تكوينه البشري ولا في نظامه السياسي. إنه في حاجةٍ إلى سياج، وسياج داخلي قبل الخارجي. والسؤال الذي قد يُجيب عنه كلّ من يقرأ هذه الكلمات: هل تمت محاسبة أحدٍ طوال التاريخ الاستقلالي، محاسبة أحدٍ من تلك الطبقة التي طغت على سمعة لبنان في الخارج، طبقة الذين أساؤوا الأمانة وأشاعوا الفساد، حتى يغدو لبنان رسالةً بالفعل، وشُرفة العالم العربي كما وصفه ملك السعودية المُؤسـس عبد العزيز بن سعود؟ بالطبع لم يُحاسب أحدٌ. وهنا تكمن كل المشكلة، وهنا الإصلاح الموعود كتمهيدٍ للثقة الموعودة.