كتاب النهار 14-03-2025 | 01:49

ليسوا مؤمنين بالضرورة

وثّق العالم الكثير من المجازر الجماعية التي ارتكبها أطراف الصراع في سوريا
ليسوا مؤمنين بالضرورة
سوريون هاربون من منطقة الساحل الى شمال لبنان
Smaller Bigger

عندما تعيش في محيط تشكل الحروب جزءاً من يوميات حياته، من الأرجح أنك ستصاب بإحدى العلل النفسية، سواء اكتشفت تلك العلة أم لم تكتشفها، وفي المثال اللبناني ليس صعباً اكتشاف ذلك، فبمراجعة بسيطة للصيدليات تعرف أن أكثر الأدوية تداولاً هي أدوية الأعصاب والاكتئاب التي لولاها لكان نصف البلد في العصفورية.
من عايش الحرب الأهلية اللبنانية أو قرأ عنها، يعرف أن كثيراً من الجرائم والمجازر الجماعية ارتكبت عى خلفيات الانتقام والحقد الطائفي أو السياسي، ومن عاصر الاجتياحات والاعتداءات الإسرائيلية على لبنان (وضمناً على الفلسطينيين اللاجئين إليه) منذ سبعينيات القرن الماضي، ومن شهد العدوان الأخير الوحشي على غزة وما سبقه من اعتداءات ومجازر ترقى إلى مستوى جرائم الحرب، هؤلاء يعرفون تماماً الألم الذي يحفره هذا العنف في النفوس فضلاً عن رغبات أخرى بالانتقام.
أثار آخر فصول القتل الجماعي في الساحل السوري ضجة كبيرة، ولم تستطع القوة الحاكمة إلا الاعتراف بالجرائم المرتكبة، ولو بمحاولة إلصاق التهمة بعناصر غير منضبطة، وهو ما دأبت عليه كل الأنظمة المشابهة في العالم العربي. العناصر غير المنضبطة هي المتهم الجاهز دائماً، وهو غالباً مجهول ولا يحاكم، رغم أن المريب يكاد يقول خذوني، بل هو يقولها صراحة عبر الفيديوات الموثقة لعمليات القتل.
الحرب الأهلية السورية واحدة من أطول الحروب الأهلية في التاريخ وأكثرها دموية، هي بدأت "رسمياً" عام 2011 لكن العنف الممهد لها بدأ عملياً قبل ذلك  بكثير، أولى محطاته الكبرى كانت مجزرة حماة بداية الثمانينيات من القرن الماضي، وتبعتها محطات كثيرة من العنف الممارس على معارضي النظام السياسيين، وحتى على الخصوم المحتملين وبيئاتهم، ما ولّد، مع ظروف اقتصادية متدهورة وعوامل دينية وسياسية وتدخلات خارجية، حالة احتقان واسعة أدت إلى الحرب التي لم تنتهِ إرهاصاتها بعد.
وثق العالم الكثير من المجازر الجماعية التي ارتكبها أطراف الصراع في سوريا: النظام والمعارضة المسلحة. تفنن الجميع في ابتكار أساليب العنف والتعذيب والقتل. ببراميل المتفجرات، بالحرق في الأقفاص والتفجير، بالرمي من الطبقات العليا، بالسحل والتجويع والخوزقة، بالذبح وإطلاق الرصاص والشنق... الفيديوات والصور كانت مرعبة فعلاً وزادها رعباً ما كشفه سقوط النظام من عنف السجون وجرائمها الوحشية.
ولئن كان التركيز على ارتكابات تنظيم "داعش" وممارسته أقسى أنواع التعذيب والمجازر الجماعية الطائفية والمذهبية، بعد استغلال إرهابه من مختلف أطراف الصراع الإقليميين والدوليين، قد أدى إلى ضرب التنظيم وطرده إلى أماكن معزولة في صحارى العراق وسوريا، فإن العنف وأعمال القتل الجماعي لم تتوقف في البلد الذي لم تستقر أحواله بعد بشكل كامل ومطمئن.
عالج علم النفس الدوافع النفسية التي قد تدفع إنساناً الى قتل مجموعة من الأشخاص من دون سبب مباشر في أحيان كثيرة وبلا خلافات سابقة، وذكرت أسباب كثيرة منها القهر الممارس على الأفراد ونشوء النزعات العدوانية نتيجة خلل في العلاقات الأسرية والظروف الاقتصادية والتنمّر والتربية والبيئة المحيطة والضعف والعجز والشعور بالدونية، إضافة إلى مجموعة من القيم التي تفرضها الجماعة وتغذي الرغبات في الانتقام والثأر، وحتى الانتحار الجماعي. 
في الحالة السورية، لا سيما في عمليات القتل الجماعي التي شهدتها أخيراً منطقة الساحل التي تقطنها أغلبية علوية، تجلى العنف بأقسى مظاهره. لا يمكن أن يكون إنساناً طبيعياً من يرتكب مثل هذه الجرائم. هو مجرم نفسي بالتأكيد. لا يعني ذلك التخفيف من جرمه أو مسامحته عليه. الإجرام في سوريا بلغ حداً غير مسبوق، وهو نتيجة تركيبة نفسية معقدة تجمعت عوامل كثيرة لتثبيتها في نفوس كثير من السوريين الذين حملوا السلاح وتفننوا في استخدامه لقتل بعضهم بعضاً. ولعل العامل المذهبي كان الأبرز في تكوين هذا العنف لدى جميع الأطراف، وكلهم مارسوا العنف، سواء بسواء. قتل السوريون بعضهم بعضاً باسم الدين، اعتمدوا تفاسير وفتاوى صدرت قبل مئات السنين وفي ظروف مختلفة تماماً وأسقطوها على الواقع القائم، وابتعدوا عن النص الأصلي. من قتلوا المدنيين في الساحل أتوا محملين بمخزون من الحقد والرغبة في الثأر لمدنيين مثلهم قتلوا على أيدي عناصر أمن وعسكر ينتمون الى جماعة الضحايا الجدد أنفسهم. وقد يعيد التاريخ نفسه فيعود ضحايا اليوم لينتقموا من جلادي اليوم-ضحايا الأمس-، في حركة من القتل لا تتوقف.
تعيد المجازر في الساحل إلى الواجهة الكثير من المجازر في الحرب السورية وفي التاريخ الإسلامي القديم والحديث، ولتطرح إشكالية عميقة جداً حول التربية الإسلامية والفهم الحقيقي للإسلام باعتباره دين تسامح ووسطية، وهذا يحتاج فكراً مختلفاً وربما حرق الكثير من الكتب والأفكار السائدة. 
 فمن يرتكبون الجرائم باسم الدين ليسوا مؤمنين حقيقيين، الطائفيون والمذهبيون قد يكونون غير مؤمنين على الإطلاق، انتماؤهم إلى الجماعة والاستقواء بها وشهوة الثأر والانتقام تكون مترسخة في نفوسهم فتقفل على قلوبهم وتدفعهم إلى ارتكاب أعمال لا علاقة للدين بها على الإطلاق.
لن تقوم قيامة لسوريا قبل ثورة فكرية ثقافية على أنقاض كثير من الموروث، فليس من الدين في شيء ولا من الحكم قتل الآخر المختلف دينياً ومذهبياً، فقط لأنه مختلف، أو لأن أحداً من جماعته مارس القتل أو التعذيب.
 

 



الأكثر قراءة

شمال إفريقيا 10/6/2025 7:23:00 AM
فرض طوق أمني بالمنطقة ونقل الجثتين إلى المشرحة.
النهار تتحقق 10/6/2025 11:04:00 AM
ابتسامات عريضة أضاءت القسمات. فيديو للشيخ أحمد الأسير والمغني فضل شاكر انتشر في وسائل التواصل خلال الساعات الماضية، وتقصّت "النّهار" صحّته. 
لبنان 10/6/2025 9:32:00 AM
طقس الأيام المقبلة في لبنان