كتاب النهار 19-02-2025 | 07:04

هجرة الكفاءات التونسية نزيف ينعش الموازنة

بلغت التحويلات البنكية المتأتية من التونسيين المقيمين في الخارج سنة 2024 أكثر من 8 مليارات دينار (نحو 2,5 ملياري دولار أميركي)
هجرة الكفاءات التونسية نزيف ينعش الموازنة
سلبيات وايجابيات لهجرة الكفاءات من تونس
Smaller Bigger


لا شيء يعكس صعوبة التوفيق بين التناقضات التي يواجهها التونسيون زمن الأزمة المالية أكثر من طريقة تعاملهم الملتبسة مع كفاءاتهم المهاجرة.

لا يمر أسبوع من دون أن تسمع متحدثاً في وسائل الإعلام ينبه إلى الخطر الذي يمثله استمرار نزيف الكفاءات من البلاد.

إن مغادرة الآلاف من المهندسين، مثلاً، سوف تحرم القطاعين العمومي والخاص من قدرات يحتاجانها لتنفيذ المشاريع الاقتصادية والتنموية للبلاد. الأمر نفسه، إن لم يكن أكثر، ينطبق على هجرة المئات من الأطباء من مختلف الاختصاصات الذين سيفاقم غيابهم نقصاً في الكوادر الصحية، جعل الدولة تتعاقد مع الصين لإيفاد أعداد من أطبائها للعمل في المناطق الداخلية. ويشمل المشكل العديد من الفئات والتخصصات المهنية الأخرى التي يتدفق أفرادها بأعداد كبيرة نحو الخارج بحثاً عن حياة أفضل.

لكن هجرة الكفاءات تشكل في الوقت  نفسه سنداً مهماً لا يمكن إنكاره للاقتصاد التونسي. ويتجلى ذلك بالخصوص من خلال التحويلات البنكية التي توفرها الكوادر المهاجرة بشكل متزايد.

يتميز الجيل الجديد من المغتربين بدخل أعلى من الأجيال السابقة من التونسيين الذين عملوا واستقروا في المهجر. وذلك ينعكس على مستوى المبالغ التي باستطاعتهم تحويلها.

والأرقام تبرز ذلك بوضوح. فقد بلغت التحويلات البنكية المتأتية من التونسيين المقيمين في الخارج سنة 2024 أكثر من 8 مليارات دينار (نحو 2,5 ملياري دولار أميركي) وذلك بزيادة تفوق 471 مليون دينار (قرابة 150 مليون دولار) مقارنة  بعام 2023.

وقد ساعدت سياسات البنك المركزي الرامية للحفاظ على استقرار قيمة صرف الدينار التونسي تجاه العملات الأجنبية في عدم تآكل قيمة التحويلات من الخارج.

وليس أدل على أهمية الظاهرة من تجاوز قيمة تحويلات المغتربين جملة المداخيل التي تجنيها تونس من القطاع السياحي بفنادقه وخدماته وجهوده الترويجية مجتمعة. وقد حقق القطاع السياحي خلال السنة الماضية مداخيل قيمتها 7,5 مليارات دينار (نحو 2,3 ملياري دولار) أمّنها نحو 10 ملايين سائح.

ولا تخفى على أحد المنافع العديدة التي تترتب على التحويلات المصرفية للمغتربين. فهي قبل كل شيء تعزز رصيد البلاد من العملة الصعبة، وهو رصيد تحتاجه تونس لتمويل استيرادها  مختلف المواد بما فيها عديد المنتجات الأساسية مثل الحبوب والطاقة، بخاصة أن توافر الاعتمادات الكافية من العملات الأجنبية أضحى مسألة حيوية في ظرف زادت فيه شروط الدفع التي يفرضها المزودون الأجانب صعوبة وتعقيداً في ظل المصاعب المالية للبلاد.

ورصيد العملة الصعبة من شأنه أن يحدد مدى قدرة الدولة على تسديد الديون المستحقة عليها من الأطراف الخارجية. وتقول أرقام البنك المركزي التونسي إن خدمة الدين الخارجي تكلفت أكثر من 14 مليار دينار سنة 2024 (4,4 مليارات دولار)، وهو ما يمثل تقريباً ثلث المداخيل السنوية للدولة التونسية.
واحتياطي العملة الصعبة يتأثر بشدة بتسديد الدولة خدمة الدين، إذ نزل احتياطي العملات الأجنبية خلال أواخر كانون الثاني/يناير الماضي، على سبيل المثال، من 119 يوماً إلى 104 أيام، بقيمة قدرها نحو 7 مليارات دولار إثر تسديد البلاد ما قيمته 1.1 مليار دولار من الديون الخارجية.

وتنعكس التحويلات بشكل مباشر على معظم قطاعات المجتمع، إذ تغذي قدرة الأُسَر على الاستهلاك والحفاظ على مستواها المعيشي وتساهم في تمويل المشاريع العائلية، وبخاصة في مجال السكن.

ولكن استثمارات المغتربين في مختلف مجالات النشاط الاقتصادي بقيت أقل من المأمول. ولإصلاح هذا الوضع هناك حاجة إلى إصلاحات من بينها سن قانون جديد للصرف يزيل القيود التي تثبط عزائم التونسيين الراغبين في تمويل مشاريع مربحة في بلادهم. فالقانون الحالي، على سبيل المثال، يمنع المستثمر من استرجاع أي جزء من الاعتمادات المالية بعد تحويلها.

هناك أيضاً حاجة إلى رؤية بعيدة النظر تتضمن تيسير الشروط التي تفرضها البنوك التونسية على تحويلات التونسيين (بما فيها تخفيض قيمة العمولات التي توظفها وتقليص الإجراءات الإدارية وتوفير فروع للمصارف التونسية لخدمة المليوني تونسي في أوروبا).

من الضروري أيضاً اجتناب المبادرات قصيرة النظر، مثل محاولة بعض أعضاء البرلمان خلال الأسابيع الأخيرة تمرير مبادرة تشريعية تفرض على الكفاءات التونسية المهاجرة دفع أتاوة قبل المغادرة لتسديد جانب مما أنفقته الدولة في تدريبها العلمي لهم. وهو طلب لا يستقيم باعتبار أن التعليم مجاني في تونس ولم يسبق للسلطات أن طالبت به أي فئة من خريجي الجامعات. من حسن الحظ أن المحاولة التشريعية باءت بالفشل لغياب المساندة الكافية لها في البرلمان، ما جنب الدولة حدوث توتر في علاقتها بمواطنيها في المهجر. ولكن الإشارات التي أرسلتها المبادرة لم تكن مشجعة للمغتربين.

كذلك تحتاج تونس وبقية بلدان المغرب العربي في المقابل للانتباه إلى التضييقات التي قد تسعى أوروبا إلى فرضها على التحويلات البنكية نحو بلدان جنوب المتوسط بتشجيع من قوى أقصى اليمين التي تحاول تصوير هذه التحويلات على أنها مصدر ضرر لاقتصاديات الدول الأوروبية. وكان التذمر من التحويلات البنكية نحو شمال إفريقيا من ضمن سرديات أقصى اليمين المعادية للمهاجرين.

ولكن التحويلات حق مشروع للمغتربين وهي لبنة من لبنات التنمية المشتركة بين ضفتي المتوسط. وهي تبقى دليلاً على عمق العلاقة بين الكفاءات المهاجرة ووطنها الأم وإن كانت لا تعوض الخسارة التي يمثلها تدفق العابرين إلى الشمال.


العلامات الدالة

الأكثر قراءة

شمال إفريقيا 10/6/2025 7:23:00 AM
فرض طوق أمني بالمنطقة ونقل الجثتين إلى المشرحة.
النهار تتحقق 10/6/2025 11:04:00 AM
ابتسامات عريضة أضاءت القسمات. فيديو للشيخ أحمد الأسير والمغني فضل شاكر انتشر في وسائل التواصل خلال الساعات الماضية، وتقصّت "النّهار" صحّته. 
لبنان 10/6/2025 9:32:00 AM
طقس الأيام المقبلة في لبنان