النهار

تشات جي بي تي: سباق الاستثمارات والتوقّعات
المصدر: النهار
تشات جي بي تي: سباق الاستثمارات والتوقّعات
تعبيرية
A+   A-

عبد الرحمن أياس


في ظل التحولات الاقتصادية والتكنولوجية السريعة، يبرز الذكاء الاصطناعي بوصفه الحجر الأساس في مستقبل الاقتصاد العالمي. هذه التكنولوجيا، التي أضحت محور الحديث في الأوساط الاقتصادية والعلمية، تعد بتغيير جذري في طرق العمل والإنتاج وحتى أنماط الحياة اليومية. وبينما تعمل القوى العالمية لتثبيت ريادتها في هذا المجال، يشهد الشرق الأوسط طفرة في الاستثمارات الموجهة نحو الذكاء الاصطناعي، في محاولة لاستغلال الإمكانات الهائلة التي توفرها هذه التكنولوجيا. ومع ذلك، تفتح هذه الجهود الباب للتساؤل حول الآفاق المستقبلية التي يمكن توقعها لهذه التكنولوجيا المتقدمة.

خلال العقد الأخير، بدأت دول الخليج، التي لطالما اعتمدت على النفط كمصدر رئيسي للدخل، تبحث عن بدائل اقتصادية مستدامة. ودفعت الاضطرابات في أسواق الطاقة وزيادة الوعي بالتحديات البيئية هذه الدول إلى تبني استراتيجيات جديدة لتنويع اقتصاداتها. أحد أبرز هذه الاستراتيجيات كان الاستثمار في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة. فالمملكة العربية السعودية، مثلاً، أطلقت "رؤية 2030"، التي تشمل أهدافها تحويل المملكة إلى مركز عالمي للابتكار. ومن بين مشاريعها الطموحة في هذا المجال، تأسيس "الشركة السعودية للذكاء الاصطناعي" (سكاي)، المملوكة من "صندوق الاستثمارات العامة"، صندوق المملكة السيادي، وإطلاق شراكات مع كبرى شركات التكنولوجيا العالمية لتطوير تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي والبنية التحتية المرتبطة بها، إلى جانب استثمار ما يُقدَّر بـ100 مليار دولار في هذا القطاع.

وتقود دولة الإمارات العربية المتحدة المشهد في المنطقة أيضاً، مع إطلاق صندوق "إم جي إكس" المخصص للذكاء الاصطناعي، بالشراكة مع شركتي "جي فور تو" و"مبادلة" الإماراتيتين. يسعى الصندوق إلى جمع تمويل يصل إلى 100 مليار دولار لتمويل مشاريع مثل مراكز البيانات والبنية التحتية اللازمة لتشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة. ولم تكتفِ دولة الإمارات بذلك، بل وسعت استثماراتها لتشمل شركات عالمية مثل "أنثروبيك"، ما يُبرِز طموحها إلى تكون طرفاً فاعلاً رئيسياً في هذا القطاع على المستوى الدولي.

في المشهد العالمي، تصدرت الولايات المتحدة القائمة بوصفها أكبر مستثمر في هذا المجال، إذ فاقت استثماراتها 328 مليار دولار خلال السنوات الخمس الماضية. تدعم هذه الاستثمارات شركات تكنولوجية عملاقة مثل "أمازون" و"مايكروسوفت" و"غوغل"، التي تعمل لتطوير تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي التوليدي والتعلم الآلي. حكومياً، أعلنت إدارة بايدن عن إنجازات رئيسية في الذكاء الاصطناعي تشمل تعزيز الأمان، وحماية الخصوصية، ودعم الحقوق المدنية، وتحسين التعليم، وضمان المنافسة. وتضمنت الجهود تطوير أطر حوكمة، وتعزيز الشفافية، ومكافحة التمييز، واستثمار ملايين الدولارات في البحوث والبنية التحتية لدعم الابتكار العلمي والاقتصادي.

وتأتي الصين في المرتبة الثانية، فهي تتطلع إلى ترسيخ مكانتها كقوة تكنولوجية من خلال ضخ مليارات الدولارات في هذا القطاع، مع توقعات بأن تتجاوز استثماراتها 38 مليار دولار بحلول عام 2027. وليست أوروبا بعيدة عن السباق. أطلقت حكوماتها مبادرات طموحة لتعزيز مكانتها في مجال الذكاء الاصطناعي. واستثمر الاتحاد الأوروبي مجتمعاً في تطوير حواسيب عملاقة تُستخدَم لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، بينما تعمل المملكة المتحدة لتطوير نظامها الوطني "بريت جي بي تي"، المدعوم بتمويل يقدر بـ900 مليون جنيه إسترليني (1,31 مليار دولار). أما الهند، فقد أطلقت "مهمة الذكاء الاصطناعي" بميزانية تساوي 1,2 مليار دولار، ما يؤكد التزامها بالابتكار التكنولوجي.

مع هذا التوسع الكبير في الاستثمارات، يتزايد الجدل حول الآثار المحتملة للذكاء الاصطناعي في الاقتصاد والمجتمع. تشير التوقعات إلى أن هذه التكنولوجيا قد تضيف حوالي ستة تريليونات دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2035. وسيكون لهذه الإضافة الأثر الأبرز في قطاعات مثل التصنيع والخدمات المالية وتكنولوجيا المعلومات، إذ من المتوقع أن تُحدِث هذه التكنولوجيا تغييرات جذرية في نماذج الأعمال الحالية. ومع ذلك، تبرز تحديات كبيرة، تشمل المسائل الأخلاقية المتعلقة بخصوصية البيانات والشفافية، بالإضافة إلى المخاوف من استغلال التكنولوجيا لأغراض غير مشروعة.

في الشرق الأوسط، قد تكون التحديات مختلفة لكنها لا تقل أهمية. فالمنطقة، على رغم ثرواتها المالية الهائلة، لا تزال تعتمد في شكل كبير على شراكات مع شركات أجنبية للحصول على التكنولوجيا والمعرفة. لكن مشاريع، ولاسيما في دول الخليج، تسعى إلى تغيير ذلك بتعزيز الابتكار في شركات حكومية وخاصة متخصصة في هذا المجال. ولا تثني التحديات دول الخليج عن الاستمرار في تعزيز استثماراتها في هذا القطاع، مدفوعة برؤى طموحة تجعل من الذكاء الاصطناعي أداة للتغيير الاقتصادي والاجتماعي.

لكن السباق نحو ريادة الذكاء الاصطناعي ليس مجرد مسألة اقتصادية، بل هو أيضاً سباق جيوسياسي. فالولايات المتحدة والصين، القوتان العظميان في هذا المجال، تسعيان ليس فقط إلى تطوير التكنولوجيا، لكن أيضاً إلى ضمان السيادة الرقمية. هذا السباق يعكس أهمية الذكاء الاصطناعي بوصفه عنصراً حاسماً في تحديد موازين القوى العالمية في المستقبل. وعلى الجانب الآخر، توفر هذه الديناميكية فرصة لدول الشرق الأوسط لتوسيع نفوذها من خلال استثمارات استراتيجية في الذكاء الاصطناعي. فمن خلال التركيز على تطوير البنية التحتية والتكنولوجيا المحلية، يمكن للمنطقة أن تصبح مركزاً عالمياً للتكنولوجيا، ما يعزز مكانتها الاقتصادية والجيوسياسية.

في النهاية، يبدو أن استثمارات الذكاء الاصطناعي تعكس طموحات عالمية مشتركة لتحسين الاقتصاد وتعزيز الابتكار. سواء في الشرق الأوسط أو في العالم، يمثّل الذكاء الاصطناعي وعداً بمستقبل أكثر إشراقاً، لكن تحقيق هذا المستقبل يتطلب توازناً دقيقاً بين الطموح والوعي بالتحديات. وإذا نجحت الدول في مواجهة هذه التحديات، لن يكون الذكاء الاصطناعي مجرد أداة لتحسين الإنتاجية، بل سيصبح قوة محركة لتحول اقتصادي واجتماعي غير مسبوق.

 

* كاتب لبناني متخصص في الشأن الاقتصادي

اقرأ في النهار Premium