اليقينية الإعلامية ومعيار الصدقية

آراء 22-10-2025 | 00:41

اليقينية الإعلامية ومعيار الصدقية

هل يعيد الإعلام اللبناني بكل فنونه وقطاعاته، بناء هندساته المعرفية والإخبارية التنويرية، بما يتوافق ومخاطر  التبدلات الزمنية والتغيرات السياسية؟ 
اليقينية الإعلامية ومعيار الصدقية
عملية إظهار مستوى وجود الحقيقة ومدى احترامها في الإعلام، تستلزم تجميع جزئيات الخبر،
Smaller Bigger

جورج كلاس*

الاهتمام المحوري الحضاري والمعرفي والإعلامي  الذي يمتاز به لبنان  كمجتمع تحولات دائمة في زمن التبدلات، إلى جانب كونه مجتمع ثوابت، يتركز  بقوة حول منسوب صدقية الإعلام  في التعاطي مع الأحداث وقدرته  على التعامل معها بمسؤولية إحترافية جادة،  توازن بين مَهمتين قضائيتين، هما: مسؤولية القضاء الواقف ودوره كإدعاءٍ عام، يرصد ويتقصَّى  ويدعي من دون أن يتهم، وبين مسؤوليته كإعلام جالس، يوازن ويقارن ويدرس ويتشاور  ويحتكم إلى الضمير ثم  يلفظ الأحكام احتراماً  للحقيقة وخدمة للشعب وحفظاً للانتظام المجتمعي العام.

 

فالواقعية السياسية الواجب اقترانها بالعقلانية الحُكْمية والواقعية الميدانية، تشكل معنى وقوة لفظيات قوس العدالة بدلالاتها الحاسمة  ومصطلحاتها  الحازمة  وصوابياتها الجازمة.  وهذا أكثر ما يعترض  الإعلام الحرّ  في مسيرة المسؤولية السياسية والاجتماعية التي تقع في صلب اهتماماته،  مع ما  يزامن ذلك من التحديات التي ترتسم في أفق المراحل التحوليَّة المرافقة لحركية  الولاءات  المتنقلة،  لدى بعض أنواع الإعلام وفنونه التقليدية والجديدة، وتلك الدخيلة على مبدئية الرصانة الإخبارية والاستقلالية التفكيرية والمسؤولية التحريرية.

 

يفرض الواجب الأخلاقي والمهني على الإعلام وجوبية الالتزام بشرفية حماية الحقيقة
يفرض الواجب الأخلاقي والمهني على الإعلام وجوبية الالتزام بشرفية حماية الحقيقة

 

ويتركز السؤال الذي يطرح في مجال تقويم آداء العملية الإعلامية، في ظروف التقلبات العامة في المواقع  والانقلابات الداخلية في المواقف،  على معيارية الالتزام  بخدمة الحقيقة والتقيُّد بقيم الموضوعية  اللازمة  وموجبات الحياديّة التي تتبدل وفق الظروف بين ثلاثة مستويات، تتدرج من  الحيادية النسبية الموظفة،  إلى  الحيادية المطلقة بوجهها السلبي؛ فالحيادية الموضوعية العاكسة لدور الفيصل الإعلامي في مقاربة الأمور ووجوبية التناول المنطقي، المستند إلى فنية الاطلاع الأفقي والقدرة على التفكيك التركيبي وتقديم التحليل العمقي، الذي يتركز على تقنية البرهنة، والقدرة على  الإقناع وتحصين الرأي التحليلي بفنيَّةٍ أسلوبية سلسة تحكمها قواعد السرد الروائي المُحكم الضبط  زمنياً وعناصر خبرية، ترسم الوقائع وتنقل الأحداث من دون  التسبُّبِ بأيِّ  إشكالات، لا حذفاً ولا إضافات ولا اختلاق  سيناريوهات  تجميلية ولا تحريفات تضليلية، يقترفها بعض أولياء الإعلام والعاملين في المواقع والمنصات، وفق تقنية كسر مزراب العين، بهدف خلق ضجة وإحداث فِتن، وتسجيل براءة تكفير وتضليل.

إن عملية تبيين  منسوب الصح  وإظهار  مستوى وجود الحقيقة ومدى احترامها  في الإعلام،  تستلزم  تجميع  جزئيات الخبر، والتأكُّد من اكتمالها وحِرفيَّةِ صياغتها بمسؤولية وجرأة  واحتراف  إبراز  الحقائق المطلقة، رغم ما يعترض هذه المهمة من تحديات معنوية وظرفية ترافق التحوّلات في كل مجال خبري  وميدان معرفي.

ويفرض الواجب الأخلاقي والمهني على الإعلام وجوبية الالتزام بشرفية حماية الحقيقة وأصول تقديم اليقينية الصلبة على التخمينية الجوفاء  وذلك، من خلال اعتماد نمط البرهنة والدلالة العقلية والتأكد من جزئيات كل خبر وواقعيات أيِّ حدث. ومتى تم الالتزام  بنظرية اليقينية الإعلامية ومفهومها، ينتفي خطر التشويه والتخيُّل والتضليل ، ويكون الإعلامي في مواجهة الحقيقة المطلقة التي لا تحتمل التفسير أو التبرير والتحوير . 

 

إنها اليقينية التَحَقُّقيَّة، التي تلازم العقلانية الواقعية الواجب توافرها في أي خدمة إعلامية، هادفة إلى الكشف والتقصي والتنوير وإعلان الحق. وأيُّ كلام عن دور الإعلام في أزمنة النزاعات وظروف التغيّرات، يفتقد منسوبية الصح ويُمسي شكلاً من أنواع الهرطقات إن لم يتصف باليقينية، منعاً للهرطقات والتحويرات التي يتم تحضيرها لتسويق مواقف واستثمار  أوهام وترويج هواجس. وهذا الكلام الطفيلي  والفطري  الذي يفتقد إلى جذور، يذبل سريعاً ويُبلى ويُفنى، كأنه  جمرٌ بلا رماد، وجثة بلا رفاة، و بالتالي تنتفي قيمته الإخبارية و دوره كخدمة معرفية وكسلطة راصدة للأحداث  وناقدة للتبدلات و مُقَوِّمة للآداء . وإذا كانت كل مرحلة تتطلب إعلاماً يوافق التحديات التي تواجهها، فإن  مأزوميّة  الإعلام اللبناني الموسوم بالحرية المطلقة  تتركز الآن على إيجاد مخارج آمنة من مأزقيات الأوضاع التي تتشابك لأسباب خارجية وتتعارض لأطماع داخلية. فهل يعيد الإعلام اللبناني بكل فنونه وقطاعاته، بناء هندساته المعرفية والإخبارية التنويرية، بما يتوافق ومخاطر  التبدلات الزمنية والتغيرات السياسية؟ ومَنْ هي المرجعية التي بمقدورها أن تبادر لإنقاذ البلد من البوابة الإعلامية؟ 

*وزير سابق

     
العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 10/21/2025 6:00:00 AM
الحرب انتهت، لكنها جولة ضمن الصراع الأكبر، وعدم إيجاد حلول للصراع سيعني عودة الحرب!
المشرق-العربي 10/20/2025 10:41:00 PM
 سرية تُعرف باسم "إمبراطورية مصاصي الدماء" قتلت الطفلة هند رجب 
المشرق-العربي 10/21/2025 12:47:00 PM
في خطوة من شأنها إعادة تشكيل القطاع المصرفي المتضرر في البلاد.
تحقيقات 10/21/2025 2:10:00 PM
ما هي أبرز التحديات التي تواجه عمليات البحث عن الجثث والمفقودين في غزة؟