الذكاء الاصطناعي في غرف الاستخبارات... من الأداة إلى الشريك المقلق

لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرّد تكنولوجيا مستقبلية في عوالم الخيال العلمي، بل أصبح اليوم ركيزة في العمل الاستخباراتي حول العالم؛ فوكالات الاستخبارات باتت تعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي في جمع المعلومات، تحليل البيانات الضخمة، واستخلاص الأنماط من صور الأقمار الصناعية والتنصت الإلكتروني ومراقبة الشبكات الاجتماعية.
هذه التقنيات توفر سرعة ودقة غير مسبوقتين في التعامل مع كمّ هائل من المعطيات، كانت تحتاج سابقاً إلى فرق بشرية ضخمة وأشهر من العمل المتواصل. لكن هذه الثورة التقنية تطرح في المقابل سؤالاً جوهرياً: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محل العنصر البشري في اتخاذ قرارات تتعلق بالأمن القومي أو مصير أشخاص؟
الجواب الحذر هو: لا، فالذكاء الاصطناعي أداة مساعدة وليست بديلاً من الحكم البشري، مهما بلغت قدراته الحسابية.
تتمثل قوة الذكاء الاصطناعي في قدرته على الفرز والفلترة والتجميع، أي في تحويل الفوضى الرقمية إلى صورة أولية يمكن أن تساعد المحلل الاستخباراتي في رؤية الاتجاهات والأنماط. يستطيع الذكاء الاصطناعي اكتشاف إشارات خطر مبكرة أو أنماط سلوك مشبوهة بسرعة تفوق الإنسان، لكنه لا يمتلك القدرة على تقدير السياق السياسي أو الإنساني أو الأخلاقي للمعلومة. فخطر الاعتماد الكامل على الآلة يكمن في فقدان الحس الإنساني والحكم الأخلاقي، وهما جوهر أي قرار استخباراتي مسؤول.
لقد أثبتت التجارب أن الخوارزميات يمكن أن تخطئ أو تتحيز، سواء بسبب نقص البيانات أو انحرافها أو سوء تصميمها. في ميدان الاستخبارات، مثل هذه الأخطاء قد تعني استهدافاً خاطئاً، أو تقييماً أمنياً مضللاً، أو كارثة إنسانية. ولهذا يبقى المصدر البشري، الضابط والمحلل والميداني، هو من يضبط الإيقاع ويضع النتائج في إطارها الواقعي.
الذكاء الاصطناعي يمكن أن يقدم المعلومة، لكن لا يمكن أن يقيّم وزنها السياسي أو الأخلاقي. لا يمكنه أن يميز بين تهديد حقيقي وآخر مصطنع، أو أن يدرك متى تكون الإشارة الرقمية انعكاساً لخداع أو تضليل. هذه مهمة العقل البشري القادر على الجمع بين التحليل التقني والفهم الثقافي والسياسي والنفسي للسياقات.
لذلك، فإن مستقبل الاستخبارات الذكية لا يقوم على استبدال العنصر البشري بالذكاء الاصطناعي، بل على دمج الإثنين في منظومة تكاملية، بحيث تظل التكنولوجيا أداة فعالة لتوسيع قدرات الإنسان، لا لتقليص دوره. المطلوب ليس "استخبارات آلية" بل "استخبارات بشرية معززة"، تستخدم الذكاء الاصطناعي لتسريع الرؤية، لا لاتخاذ القرار عنها.
لا يجوز أن تتحول الآلة إلى صانع قرار في ملفات تتعلق بالأمن القومي أو مصائر البشر. فالاستخبارات، مهما تطورت أدواتها، تبقى علماً إنسانياً في جوهره، يحتاج إلى ضمير قبل أن يحتاج إلى خوارزمية.
*باحث في الأمن الدولي والإرهاب