محمود شريح

إسكندر حريق (1904-1962) في مجموعة مقالاته وقصصه "كَيْلان و وزْنان" (بيروت: الدار العربيّة للعلوم ناشرون، 2025) يردّنا إلى زمن كتابة جميل تقادم عقده، فإذا مقالاته وقصصه عودٌ على بدء، بأسلوب سلس ومتماسك، وموضوعها متجدّد، يعبق بروح الرفض ونفس التمرّد، ويتمسّك بجبله، وينتفض على التسلّط، ويثور على التحجّر الفكري فيما يبقى صلباً في تمسّكه بالحقّ القومي، ولا عجب فهو شويري مثل تربه أنطون سعادة (1904-1949) رائد الفكر السّوري القومي الاجتماعي، وإن كان إسكندر حريق من دعاة القوميّة العربيّة، فيما الاثنان ورثا الفكر النهضوي لأهل جبل لبنان، وناديا بالحرّية بنفَس جبراني. يكتب اسكندر حريق عن القرى اللبنانيّة فيرى انّها العمود الفقري للبنان، هو هذه القرى المنتشرة على التلال والآكام والسفوح والأودية، وعن المغتربين في المهاجر. ويدعو إلى الأصالة، مؤمناً أنّ الحياة تطوّر ونموّ، إلى مبحث مطوّل سطّره وهو طالب في أميركية بيروت وفرغ من كتابته في الشوير صيف 1925 عن التهذيب في عصر محمد علي باشا في مصر إذ كان محمد علي باني مصر الحديثة، أنشأ المدارس والمستشفيات والمطابع والجرائد وأوفد بعثات تعليميّة إلى أوروبه، إلى مقالات حريق عن تربية الأطفال ومآثر العرب في الطبّ وسبل ترقية برامج التعليم الثانوي في بلاد الشام، إلى أن يُفردَ باباً عن الحِكم، ثمّ مقالات نقديّة عن شيخ المعرّة أبو العلاء وصلته بعلم الاجتماع، وعن المتنبّي في إدراكه لدقائق علْم النفس، وعن ايليا أبو ماضي في ديوانه الجداول.

أمّا في باب السّرد فكان اسكندر حريق أصدر في عام 1937 عشرون قصّة (عن مطبعة الراعي في النجف) كتبها حين كان أستاذاً في العراق، أهداها إلى خاله عبس يزبك تبشراني، وهي عشرون قصّة ثلاث عشرة منها موضوعة وسبعٌ مترجمة، (وأضاف إليها ابنه منصور قصة بعنوان "لذّة الأسفار" لم يشملها كتاب النجف)؛ وكان الأديب العراقي جعفر الخليلي قدّم لهذه المجموعة أشار فيها إلى أنّ حريق انضمّ إلى جريدتيْه الراعي والهاتف وانّه ما هي إلّا فترة قصيرة حتّى "عرف القرّاء للأستاذ حريق أدباً ممتعاً وشعوراً رقيقاً ليس من السّهل اقتفاء أثره وتقليده فيه، فهو من النّوع المسمّى السهل الممتنع".

القصص المترجمة التي عرّبها حريق والتي تشهد على اتقانه مهنته لهي من عيون الأدب العالمي: غوركي. هانس أندرسن. تولستوي. أوسكار وايلد. تشيكوف. لرمنتوف. أمّا قصصه الموضوعة فدلالة على معرفته الوثيقة بعادات وتقاليد أهل جبل لبنان ومهاجريه بأسلوب جذّاب وممتع في سرده، أمّا موضوعها فيتأرجح بين قطبي الواقعيّة والخيال دون أن يغيب عنها روح فكاهة ودعابة دلالة على وعي حريق لبواطن علم النفْس حيث الغريزة والحلم صنوان، مضافاً إليهما دعابة وفكاهة على خُطى مارون عبّود.

اسكندر حريق المعلّم يعود إلى قارئه بعد ستة عقود، إذ كانت زوجته جورجيت مبارك جمعت إثر وفاته كتاباته هذه وأصدرتها تحت عنوان رفّة جناح، وها هو نجلهما منصور يصدر الكتاب بمباركة اخوته سامي ورائدة وميّ فيعرض سيرة والده منذ ولادته في الشوير إلى دراسته في بيروت ونيويورك وتدريسه في النجف وبغداد وبيروت وبرمّانا والشوير ثم تحريره مجلّة أهل النفط الصادرة عن شركة نفط العراق في طرابلس ثم في بيروت، فوفى والدَه حقّه.

جميلة مرزوق الحلبي تقدّم الكتاب منسّقاً ومبوّباً وتقسّمه إلى أبواب تبعاً لمضمون مقالاته وأبحاثه وقصصه فتضفي عليها بهاء ورونقاً.

كنّا في زمن بيروت الرغد المعطاء نتسامر مع جورجيت مبارك حريق وابنتها ميّ زميلتي في الانترناشونال كولدج وأميركية بيروت ومعنا عمّتها صوفي الوافدة من بغداد إثر تقاعدها من التعليم هناك لعقود خلت ونمرّ بالذكريات وأهل مبارك وأهل حريق أصحاب ذاكرة متّقدة، فيما نحن على مطلّ من مساكن خاليها بولس وبطرس ومن شرفة سكن اسكندر حريق القديم في حديقة آل مبارك حيث نافورة وياسمينة غابت عنها عمّتها ماري حريق المشهورة بمقولتها "فلان حيّ لا يُرزق"، بمحاذاة قول خالها بطرس حين يُسأل عن صحّته "أنا منيح على الدوا". أمّا خالها الآخر بولس فناداه أصحاب سامي ورائدة ومنصور وميّ بالخال، فعرفه أهل راس بيروت بالخال، حتّى هذه السّاعة، رحمهما الله.