الصحافة العميقة في المجتمعات العميقة

جورج كلّاس*
لعل السؤال الأخطر الذي يستحق الجواب الأجرأ في زمن إحكام القوى الخفية على المقدرات والحقوق المدنية للناس في المجتمعات النامية كما المتقدمة عليها، هو الذي يتمحور حول الدور الذي تمارسه الصحافة العميقة في توفير حماية متقدمّة للدولة العميقة، وتمكينها من الإطباق على مفاصل الدولة الحقيقية والتحكم بمصير رعاياها، والإمساك بمفاصل القرار الاقتصادية والسياسية والأمنية، بما يؤمن الحصرية المعلنة للسلطة المستترة والفارضة سطوتها على المرافق الحياتية، في ظل القبض على سلطة القرار من جهة، والعمل لتجهيل المجتمع عن حقوقه من نواح أخرى.
ففي مجتمع برمجيات الفوضى المركبة في الأنظمة المرتبكة، تحتل الصحافة العميقة مرتبة الصدارة في أولويات خدمة هرميات السلطات المتوافقة ضمناً وعلانيَّةً على توزيعات مغانم حصاد التسليم الطوعي والقبول الخنوعي للرعايا الأتباع الذين خضعوا وخنعوا وارتضوا واستسلموا، فسارعوا لأن يربطوا رقابهم بحبال غليظة و يقيدوا أرجلهم بسلاسل جنزيرية ويكبلوا أياديهم بأصفاد حديدية، و يكمّوا أفواههم عن كل صرخةِ حقٍ استنجادةٍ إغاثية. لا لشيء سوى أنهم لم يعرفوا طعم الحق ، ولم يذوقوا نكهة الحرية مرّة، فعاشوا بعلاً وتصحُّراً دائمين، و لم يترطبوا بندىً المعرفة، و لا هم بلّوا ريقهم بقطرة ماء الكرامة.
وتجهد الصحافة العميقة، لتركيز سلطتها بحرصها على عملية التصحير المعرفي على قواعد التجهيل وتعميم الاكتفاء بفتاتِ المسموح به من بقايا الأخبار الباهتة والصور الزائفة والتحليلات الإيهامية المفسدة والباطلة والهادفة إلى التضليل والانقيادية التسليمية، بالارتكاز على استراتيجيات الدولة العميقة التي تكون محمية من الصحافة العميقة وأدواتها وفنون الإخبار اللازمة، للتحكم بصناعة الرأي وإحكام القيادة على توزيع المعرفة المسموح بها والتي تخدم فلسفة كل سلطة قابضة ووظيفتها، اضافة إلى ضخِّ التشويش الذي يناسب عملية الإطباق على الأذهان ويقتل شهية الوعي ويمنع الرغبة بمتابعة الأخبار وفهم دلالات ما حدث وما يحصل، من دون الطموح توصلاً إلى مرتبة توقع التطورات اللاحقة. وهذا يشكل نوعاً من المحميات الحاجبة للمعرفة والمُسدِلةِ الستارة على ما يحق للرعية أن تعرفه بالحد الأدنى من المحيط الخبري.
إن التعرّض لمفهوم الصحافة العميقة، كسلطة حامية لكيانية الدولة العميقة، في ظلِّ تنامي الرهان المعرفي على تقديمات الذكاء الاصطناعي، بما يوفره من قدرات للتلاعب بالمعلومات والمعارف وضخ تصنيعاتٍ خبرية مأخوذة من مخازن معلومات وخوادم معلوماتية، ويشكل تحدياً حقيقياً لإنتاج معلومات نظيفة ومفيدة، تتصف بالجودة والنوعية وتقدم خدمات للإنسانية وتساهم بشكل مباشر في تطوير قدرات الناس وتساعدهم على الفهم وتمكنهم من الإفهام والتفكير والتعبير والابتكار.
فالصحافة كسلطة، تمارس في المجتمعات المترهلة القدرة الخفية للتحكم بمفاصل المعرفة. إضافة إلى أنها تشكل شبكات نفوذ فاعلة داخل النظام الإعلامي والسياسي في البلد، وتستثمر غياب الرقابة الديموقراطية، بما يعنيه دور الصحافة العميقة في تشكيل الأحداث، انطلاقاً من كونها صحافة داخل الصحافة، تقوم على إقامة تحالفات مصلحية، تقوم بها النخب السلطوية الدائمة السعي لتقويض أسس إستخدام الديموقراطية حِفظاً لمصالحها الخاصة، والعمل للسيطرة على المعرفة وإشاعة التعمية والتجهيل من خلال كتم ما يجبُ أن يُعرَف والإقلال من تعميم المعلومات المفيدة.
وأخطر وجوه حماية الفساد الذي تمارسه الصحافة العميقة في مراتب سلطة الدولة وأشكالها، هو تدخلها في الانتخابات وتوظيف الإعلام وهيمنتها على وسائل التواصل للتأثير وتغيير الخيارات والتلاعب بصناعة القرار وتنمية الرأي الحر، إلى جانب جهدها للسيطرة على الاقتصاد والتحكم بأنشطته من خلال نشر ثقافة الفساد والاحتكار، وممارستها دور أجهزة المخابرات الصحافية، وتوظيف مراكز البحوث والتوثيق لخدمة أهدافها في تشكيل السياسات المتحركة وتأثيرها المباشر على مظاهر الديموقراطية وسلوكياتها المجتمعية على الصعد المختلفة والمستويات السياسية. إلى جانب ما تقوم به من تحريض وسائل التواصل الاجتماعي وتوظيفها للتأثير على الرأي العام وتوجيهه وفقَ ما يتناسب ومصالحها الخادمة لأهداف الدولة العميقة وتوجّهاتها بكل أهدافها المكشوفة والمستورة، وتلك المُخبَّأة خلف النيات والمقاصد والمشاريع التي يتم إعدادها في جبانة الخفاء ووقاحة الجهر .
ويتحدد الدور الوظيفي للصحافة العميقة في تدعيم ركائز الدولة العميقة ومفاهيمها، من خلال مستويين متعارضين:
مستوى خدمة الدولة العميقة، وهو المدخل الرئيس إلى التنازل عن شرفية الدور المنوط به؛ ومستوى الإخلال بالمهمة المعرفية والرقابية التي يجب أن تمارسها على السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، من حيث أنها سلطة معنوية في خدمة الرأي العام وحماية الديموقراطية في مجتمع حريات موصوفة.
من هذا الواقع المأزوم يجب وضع إستراتيجيات تفاعلية للتعامل مع أساليب الصحافة العميقة ومواجهة قدراتها في عملية التحكم بالمعلومات، نشراً وكتماناً وتحويراً وتشويهاً واستثماراً، وذلك من خلال إمعان الصحافة العميقة بنقض المواثيق المهنية وعدم التزام شرفيات المهنة، استخباراً وإخباراً وموضوعية تحليل. إضافة إلى الإخلال بالوظيفة الإعلامية كفعلٍ حضاري ورسالة تعريفية ومسؤولية إجتماعية. إلى جانب بروز دكتاتورية الصحافة العميقة وسلطويتها في الإمساك بمفاصل المعرفة واحتكارها واستثمار مسارها وتجييرها لغير الصالح العام، فضلاً عن ممارستها عملية التعاكس المعرفي، في التضليل والتضييع وإخفاء الحقائق وإجتزائها.
والدور المشبوه للصحافة العميقة، كخادمة للدولة العميقة والاقتصاد العميق والإدارة العميقة والديبلوماسية العميقة، واشتراكها في جرميات التضليل وتوفير السبل للدولة العميقة لتأكيد حضورها السلبي ودكتاتوريّة الإعلام الأسود، يطرح مخاوف بحيث يتركز التساؤل حول: أيُّ صحافة، لأيِّ سلطةٍ، لأيِّ مجتمع؟ ومن يحصن مجتمع الدولة العميقة كي لا يتحول ضحية للصحافة العميقة؟
فالدولة العميقة لها صحافتها الخاصة التي تعمل لصالحها كجزء من مكوناتها وأحد أبرز أجهزتها وأقواها فعالية، وتعمل لتجييرها بقوة لصالح إحكام الدولة العميقة قبضتها على الواقع العام المأزوم في البلد، الفاقد الأهلية للتحكم بقراره ومعرفة صالحه.
وعلى هذه المداميك الملتوية الرصف، تتحدّد الوظيفة الرئيسية للصحافة العميقة حامية للدولة العميقة، التي تدعم خططها وتقوم للترويج لسياستها وتبييض المعلومات حولها.
غير أن القضية الأكثر إثارة للقلق والواجب طرحها للنقاش البناء، هي التفتيش عن المرجعية الإعلامية الواجب الاحتكام إليها مع تنامي قدرات الدولة العميقة وتسخيرها الصحافة السوداء، أي الصحافة العميقة لخدمة مصالحها. وأيُّ دور يجب طرحه على البحث، للخلوص من مجتمعات الفوضى، بوجوهها الدستورية والسياسية والأمنية والاقتصادية؟
*وزير سابق
-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.