باغرام: موطئ قدم أميركا في مواجهة التنين

إيمان درنيقة الكمالي*
"ما يقلقني حقاً هو موطئ القدم الاستراتيجي الذي نتخلى عنه في الفناء الخلفي لأعظم منافسي أميركا". هذه الجملة، التي صاغها مايكل والتس، عضو الكونغرس ومستشار الأمن القومي لترامب سابقاً ومندوب أميركا الحالي في الأمم المتحدة، لم تكن مجرد تعبير عن استيائه من الانسحاب الأميركي من أفغانستان، بقدر ما هي تمهيد لرؤية الولايات المتّحدة الجيوسياسية التي ترى في أفغانستان جبهة ضرورية لاحتواء منافسيها: الصين وروسيا.
واليوم، تعود قاعدة باغرام الجوية إلى واجهة الصراع لا كإرث احتلال وحسب، بل كورقة ضغط استراتيجية. فقد أعلن دونالد ترامب أخيراً في مؤتمر صحافي في لندن في 18 أيلول/ سبتمبر 2025، أنّ إدارته تُجري مفاوضات مع حركة طالبان لاسترجاع القاعدة. والأدهى من ذلك، أن ترامب لم يكتفِ بالتفاوض، بل استعار لهجة تهديدية وابتزازية صريحة، محذراً أفغانستان من أن "أشياء سيّئة جداً" ستحدث إن لم تَعد القاعدة للولايات المتحدة التي بنتها.
باغرام: قلعة السيطرة الاستراتيجية والتاريخ المضطرب
تُعدّ قاعدة باغرام إيرفيلد (Bagram Airfield) أكبر قاعدة عسكرية أميركية سابقة في أفغانستان. وكانت بلا منازع مركز الاحتلال الأميركي الذي استمر عشرين عاماً، واستضاف أكثر من 100 ألف جندي أميركي في ذروة العمليات.
وقد بنى هذه القاعدة أولاً الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت نقطة انطلاق رئيسية لقواته خلال غزو الثمانينيات. وبعد الغزو الأميركي عام 2001، حوّلتها الولايات المتحدة إلى ما يشبه "مدينة عسكرية"، وأنشأت فيها سجناً كبيراً ومركز احتجاز "باران" بالقرب من كابل. وبهذا، فقد مثلت باغرام تاريخياً رأس حربة الجيش الأميركي في أفغانستان، وكانت الأصل العسكري الأهم للولايات المتحدة في المنطقة بأسرها.
الدافع المعلن والرد السيادي
كان الدافع "المعلن" من ترامب لاستعادة باغرام، "استراتيجياً" صرفاً؛ إذ زعم أن وجود القاعدة على بُعد ساعة من مواقع التصنيع النووي الصيني، ولا سيّما في منطقة لوبنور بإقليم شينجيانغ، يجعلها موطئَ قدم حيوياً لمراقبة الصين من الشرق. ورغم تشكيك الخبراء في أهمية القاعدة للمراقبة النووية مقارنة بقدرات الأقمار الصناعية الهائلة، تبقى القاعدة نقطة ارتكاز استراتيجية بالقرب من المنافسين.
في المقابل، وعلى الرغم من أن أفغانستان تعاني من العزلة الدولية وتجميد أصولها (نحو 9 مليارات دولار) وغياب الاعتراف الدولي بحكومة طالبان، جاء الرد الأفغاني حاسماً ومؤكداً أن السيادة ليست قابلة للمساومة. وقد أكد وزير الخارجية أمير متقي خان أنهم "لن يقبلوا بوجود فرد واحد أو عسكري واحد من أميركا"، مشدداً على أنّه لن يتم التنازل عن شبرٍ واحدٍ من الأرض الأفغانية، حتى لو كان ذلك مقابل الاعتراف الدولي أو رفع العقوبات والإعمار.
باغرام في قلب "حروب الممرات": الدوافع الحقيقية
الحقيقة أنّه وراء السبب المعلن، يكمن دافعان حقيقيان يربطان محاولة استعادة باغرام بشكل مباشر بـ"حروب الممرات"، وذلك على الرغم من أن القاعدة ليست ممراً بحرياً أو برياً تقليدياً، بل مفترق طرق جيوسياسي وأداة للتحكم الإقليمي.
أولاً، تتمثل الأهمية الجيوسياسية لباغرام في كونها أكبر قاعدة جوية سابقة في آسيا الوسطى، ما يمنحها قيمة كممر لعبور القوة الجوية والنفوذ في منطقة داخلية، لذا فإنّ السيطرة عليها تضمن للولايات المتحدة وصولاً سريعاً وآمناً لنشر القوات، وجمع المعلومات الاستخباراتية، والرد السريع نحو مناطق نفوذ المنافسين. إضافة إلى ذلك، فإن باغرام ضرورية عسكرياً لفتح "جبهة ثانية" ضد الصين، حيث يهدف هذا التهديد لـ"التشتيت الجغرافي" وذلك من خلال فتح جبهة ضغط بديلة على بكين في آسيا الوسطى، ومنعها من تركيز كامل قوتها العسكرية في الممرات البحرية الشرقية (مثل مضيق تايوان) في حال اندلاع حرب، وبالتالي تخفيف الضغط على حلفاء أميركا في المحيط الهادئ.
ثانياً، يشكّل الدافع الاقتصادي المحرّك الخفيّ والأهم؛ إذ تسعى واشنطن لإعادة استهداف كنوز أفغانستان من المعادن النادرة والنفيسة التي تقدَّر قيمتها بحوالي تريليون دولار، بما في ذلك الليثيوم، والكوبلت، والذهب، والنحاس. هذه المعادن ضرورية في صناعة التقنيات الحديثة، ونظراً لسيطرة الصين حالياً على إنتاج وتصدير معظمها عالمياً، فإن استعادة موطئ قدم في باغرام تؤمن وصولاً مستمراً للولايات المتّحدة لهذه الثروات وحرمان الصين من الاحتكار الكامل لها، ما يخدم الاستراتيجية الأميركية في حربها الاقتصادية والتكنولوجية ضد بكين.
القيود الجيوسياسية والعراقيل الإقليمية
تبقى أفغانستان خياراً نظرياً متاحاً لكنه محفوف بالمخاطر، لا سيما أن طبيعتها الحبيسة (Landlocked State) تُقيّد حرّية التحرّك العسكري الأميركي، وتجعل أيّ انتشار واسع للقوات رهينةً لموافقات إقليمية يصعب تأمينها. ورفض طالبان القاطع لأيّ وجود عسكري أميركي يعقّد هذه الرؤية، ويضع واشنطن أمام معادلة صعبة بين الرغبة في استعادة نفوذها وبين الوقائع السياسية والجيوستراتيجية المستجدة.
تناقضات السياسة الأميركية
... تتجلى تناقضات السياسة الأميركية بأقوى صورها: فبينما تقتضي المصالح الأمنية لواشنطن دعم وتسليح طالبان كجزء من استراتيجية محاصرة الصين، تواصل الولايات المتحدة فرض عزلة سياسية واقتصادية على النظام الأفغاني. هذا التضارب "الأيديولوجي" يضع "الأمن القومي" في مواجهة "الموقف السياسي"، ما يُضعف قدرة واشنطن على تحقيق أهدافها الاستراتيجية، ويترك الباب مفتوحاً أمام بكين لتعميق نفوذها في "الفناء الخلفي" الأفغاني…
*أستاذة جامعيّة - باحثة سياسيّة
- المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.