تحديات الوعي الوطنيّ في لبنان وآفاقه

آراء 06-10-2025 | 10:25

تحديات الوعي الوطنيّ في لبنان وآفاقه

عندما نعتبر عمل الوعي الجماعيّ في الإطار اللبنانيّ بصفته وعيًا وطنيًّا، يبرز الترابط الحيويّ بين الذاكرة والحاضر الفريد ضعيف التطوّر في وجهته المرجوّة التي تبدو في الواقع غامضة
تحديات الوعي الوطنيّ في لبنان وآفاقه
العلم اللبناني (أرشيف).
Smaller Bigger

الأب صلاح أبوجوده اليسوعيّ
أستاذ في جامعة القديس يوسف

 

 

"لا وطنيّة بلا حريّة، ولا حريّة بلا فضيلة، ولا فضيلة بلا مواطنين؛ فكَوِّنوا مواطنين، وسيكون لديكم كلّ ما تحتاجون إليه" (جان-جاك روسو).

 

وفقًا لبرغسون، يربط الوعيُ الماضيَ بالحاضر بحركة ديناميّة متواصلة. وتنشأ هذه الحركة من حالة توتّر أساسيّة بين استمراريّة تجاربنا المعاشة ونداء كلّ مستجدّ يرافق حتمًا تطوّر الحياة. لذا، لا يكتفي الوعي بالتمسّك بالماضي، بل ينتقي منه عناصر تتجاوب ومتطلّبات الحاضر. وبهذه الطريقة، يقوم الوعي بعمليّة تجاوز إبداعيّ للماضي، إذ يصيغ الماضي بطريقة جديدة بالكامل، تفتح على مستقبل مختلف عن الماضي، أي لا يمثّل أبدًا تكرارًا له أو مجرّد إعادة إنتاجه.

 

وبالطريقة نفسها التي يبني فيها الفرد استمراريّته من خلال العودة الانتقائيّة إلى ماضيه في ضوء مستجدّات الحاضر، ويتطلّع إلى مستقبل جديد، يمكن أيضًا تصوّر جماعة معيّنة أو أمّة ما بصفتها حاملة وعي جماعيّ يستقي من ذاكرة مشتركة تضطلع بدور المخزون الرمزيّ، بمعنى أنّه يحتوي على التمثيلات (الصور والروايات والقيم والأفكار والتقاليد...) التي تسمح بتفسير الحاضر وتصوّر المستقبل. وبالتالي، يبرز الوعي الجماعيّ أو الوطنيّ بصفته حالة شدّ مماثلة لتلك التي تميّز الوعي الفرديّ، في ربط الماضي انتقائيًّا بالحاضر المتجدّد، وابتكار المستقبل.

 

عندما نعتبر عمل الوعي الجماعيّ في الإطار اللبنانيّ بصفته وعيًا وطنيًّا، يبرز الترابط الحيويّ بين الذاكرة والحاضر الفريد ضعيف التطوّر في وجهته المرجوّة التي تبدو في الواقع غامضة. ذلك أنّ الذاكرة الوطنيّة باعتبارها مخزونًا مشتركًا ينهل منه الوعي الجماعيّ بطريقة انتقائيّة، يتداخل بها المخزون الرمزيّ الطائفيّ بمعناه الواسع. غير أنّ هذا المخزون المتنوّع، وفي الغالب المتناقض، تبعًا لتاريخ كلّ طائفة، لا يصبّ في وجهة وطنيّة واحدة. وبالتالي، فإنّ العمل الانتقائيّ المفترض إزاء الواقع المستجدّ لا يتّخذ وجهة جامعة وخلاّقة تتجاوب وحاجات الحاضر وتحدّياته والمستقبل المشترك.

 

في مثل هذا الإطار، لا يُعاش الحاضر بصفته فرصةً لعمل خلاّق مشترك يؤسّس للمستقبل، بل حقلاً يُعاد فيه إنتاج التباينات التقليديّة الماضية والخلافات الموروثة. لذا، فحيث أنّه يُفترض أن يتجاوز الوعيُ الماضي، كما يقول برغسون، بغية السماح بنشأة مستقبل فريد، يبقى الوعي الوطنيّ اللبنانيّ أسير علاقة خلافيّة بتاريخه، وغير قادر على تحويل الذكرى إلى مناسبة لإطلاق عمل خلاّق.

 

يتغذّى هذا الواقع السلبيّ من الخطاب السياسيّ الطائفيّ الذي يُبنى باستمرار على الخلفيّات الخلافيّة أو الفئويّة والصدمات التاريخيّة، وإن بعبارات تحاكي الشؤون الراهنة. لذا، تبقى البلاد وكأنّها تراوح مكانها في ما خصّ طريقة التعاطي السياسيّ والوطنيّ، محافظةً على أسس النظام الذي لا يسمح بنشأة وعي وطنيّ واحد، أو على الأقلّ، بتغذية بذار هذا الوعي الحاضرة في الخبرات اللبنانيّة اللاطائفيّة. وفي الواقع، يمؤسِّس النظامُ القائم ذكرى انتقائيّة من العنف والحذر المتبادل والتكاذب والتعاطف السطحيّ، محوّلاً التاريخ إلى مورد سياسيّ يُوظَّف تبعًا للحاجة، إمّا لتغذية الانقسام أو للحفاظ على عيش مشترك ضعيف يدور ضمن حدود النظام نفسه. وتنزع بعض النخب الطائفيّة، في هذا السياق، إلى تغذية ذاكرة "الضحيّة"، مبرّرة مواقفها بالخوف من تكرار أخطاء الماضي التي أتت على حساب مصالح الطائفة، خالقين بذلك جوَّا يؤثر الانغلاق الهوياتيّ والولاء للاقطاعيّة السياسيّة عوض تعزيز التزام أفقيّ يُنشد الجماعة الوطنيّة كلّها.

 

تبدو هذه الديناميّة محكومة، في آن واحد، بقواعد اللعبة السياسيّة وبالطقوس الدينيّة التي تتحوّل في بعض الظروف إلى وسيلة تخدم أطراف تلك اللعبة. فمن جهة، تجعل المحاصصة الطائفيّة في السلطة من كلّ زعيم حارسًا لمصالح طائفته وضمانة لديمومتها، كما تعرِّض كلّ قرار مهمّ لتوازن الفيتوات وانعدام الثقة المتبادل بين الأطراف. فالنظام لا يشجّع على البحث عن مصلحة عامّة موجّهة نحو المستقبل، بل يؤثر الدفاع المستميت عن مكتسبات فئويّة يُنظر إليها وكأنّها حصون في وجه تهديد مستمرّ. وهكذا، تصبح السياسة موجّهة بنيويًّا نحو إدارة المخاوف الموروثة، الأمر الذي يجعل البلاد بشكل دائم عرضة لشلل النظام.

 

ومن جهة ثانية، عوض أن تؤلِّف الطقوس الدينيّة لغة رمزيّة شاملة وجامعة، تُصبح في كثير من الأحيان علامات مميّزة للانتماء الطائفيّ، وتُشحن بدلالات سياسيّة ضمنيّة. ويحوّل هذا الانزلاق البُعد الدينيّ إلى أداة تنافس، ويُكسِبُ البُعدَ السياسيّ مضمونًا لاهوتيًّا، غالقًا بذلك كلَّ طائفة على هويّة موروثة ذات طابع قدسيّ. وبنتيجة ذلك، لا يمكن الذاكرة الجماعيّة أن تجد طريق الوحدة، ما دامت كلّ جماعة تُعيد قراءة خبرات الماضي السلبيّة من خلال خطابات السياسيّين والرموز الطقسيّة الخاصّة. وفي نهاية المطاف، يشلّ النظامُ الطائفيّ المدعوم بتوظيف الطقوس الدينيّة القدرةَ الجماعيّة على التطلّع إلى المستقبل والاستجابة إلى متطلّبات الحاضر التي تهمّ مصلحة الجميع.

 

ولكن بالرغم من جسارة هذا المأزق وتعقيداته، فهو ليس نهائيًّا. فإن كان جسر الوعي الجماعيّ الوطنيّ مشرزم حاليًّا، يمكن تشييده. ويكمن السبيل إلى ذلك في حركة مزدوجة هي، في الوقت عينه، نقديّة وبنّاءة. فمن جهة، يجب العمل على تثمين الخبرات الإيجابيّة اللاطائفيّة- الاجتماعيّة والثقافيّة والمدنيّة- وإبرازها ونشرها، بحيث تكتسب تدريجيًّا مكانتها الوطنيّة التي تستحقّها، لا سيّما وأنّ هيمنة الواقع الطائفيّ يهمّشها. فإنّ تلك الخبرات تُبيِّن إمكانيّة العيش معًا على أساس المواطنة والبحث عن المصلحة العامّة، وهي بذلك تمثّل مخزونًا ثمينًا من البدائل الفعليّة للطائفيّة.

 

ومن جهة أخرى- وهذا أمر يكتسب بُعدًا جوهريًّا- من المهمّ القيام بعمل نقديّ للذاكرات الطائفيّة نفسها. فعوض نفيها أو وضعها في مواجهة بعضها بعضًا، يجب تجاوزها من خلال الاعتراف بنصيبها من الحقيقة وبأوجه توظيفها، لكي لا تعود تخدم عدم الثقة المتبادل، بل تساهم في صياغة سرديّة وطنيّة أشدّ شموليّة وتعقيدًا.

 

وممّا لا شكّ فيه أنّ استعادة الماضي استعادةً نقديّة على نحوٍ مستوحى من قطيعة برغسون الإبداعيّة، تبقى شرطًا لا غنى عنه لكي تعرض الذاكرة عن كونها ساحة معركة، وتصبح مخزونًا رمزيًّا يستمدّ منها اللبنانيّون عناصر صلبة تؤسّس لمستقبل مشترك.

 

إنّها ورشة هائلة بالفعل، تتطلّب إعادة صياغة الوعي من خلال تبنّي تربية تحرريّة تدعمها إرادة سياسيّة شجاعة، مستعدّة لنزع الطابع القدسيّ عن الانقسامات الموروثة. ولكن بفضل تحقيق هذا التحوّل في النظرة – من ذاكرة الضحيّة إلى ذاكرة المواطنة، ومن الولاء الطائفيّ إلى الالتزام الديموقراطيّ-يمكن لبنان أن يعكس منطق النظام المشلّ، ويمكنه حينئذٍ أن يصبح فاعلاً في تاريخه، محوّلاً التوتّر العقيم بين ماضيه المتعدّد والمبعثر إلى قوّة موحّدة ليبتكر، أخيرًا، مستقبلاً مشتركًا.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 10/8/2025 3:44:00 AM
أقدم شقيق النائب الأردني السابق قصي الدميسي على إطلاق النار من سلاح رشاش تجاه شقيقه عبد الكريم داخل مكتبه، ما أدى إلى وفاته على الفور.
المشرق-العربي 10/9/2025 5:51:00 AM
حذّر أدرعي سكان قطاع غزة من العودة إلى المنطقة التي تقع شمال وادي غزة
اقتصاد وأعمال 10/8/2025 7:17:00 PM
ما هو الذهب الصافي الصلب الصيني، ولماذا هو منافس قوي للذهب التقليدي، وكيف سيغير مستقبل صناعة المجوهرات عالمياً، وأهم مزاياه، وبماذا ينصح الخبراء المشترين؟