آراء 02-10-2025 | 10:51

قراءة في نقد كمال جنبلاط لفكر أنطون سعادة: بين الفلسفة والسياسة

قراءة في نقد كمال جنبلاط لفكر أنطون سعادة: بين الفلسفة والسياسة
كمال جنبلاط.
Smaller Bigger

فاروق غانم خداج
كاتب لبناني وباحث في الأدب والفكر الإنساني

في ذروة التحولات الفكرية والسياسية التي شهدها الشرق الأوسط في منتصف القرن العشرين، وقف كمال جنبلاط شاهدًا ومفكرًا وسياسيًا استثنائيًا، محاولًا الموازنة بين ولائه لوطنه وانفتاحه على فضاءات الفكر الإنساني الواسعة. وفي كتابه الذي ظل محطّ جدل ونقاش، أضواء على حقيقة القضية القومية الاجتماعية السورية، يقدّم جنبلاط تشريحًا دقيقًا لأحد أكثر المشاريع الفكرية تأثيرًا وخطورة في المنطقة: مشروع أنطون سعادة القومي الاجتماعي.

هذا الكتاب ليس مجرد نقدٍ لخصم سياسي، بل رحلة في فلسفة حاولت إعادة تشكيل هوية الإنسان السوري واللبناني، ورؤية ثاقبة لرجل آمن بأن العقل والنقد هما سبيل التحرر الحقيقي. ويكتسب الكتاب أهمية تاريخية كونه صدر في لحظة دقيقة من تاريخ لبنان المضطرب، حيث كانت النزاعات الطائفية والفكرية تهدد بتفكيك النسيج الاجتماعي. ومن المفيد التذكير بأن مشروع سعادة لم يكن هامشيًا، بل مثّل في زمانه جاذبية فكرية وتنظيمية قوية استقطبت العديد من المثقفين والشباب الباحثين عن هوية جامعة، الأمر الذي يفسر حدة نقد جنبلاط له.

تحت مجهر جنبلاط: تفكيك الأسس الفلسفية

انطلق جنبلاط في نقده من عمق الفلسفة، مستهدفًا مفهوم "المدرحية" الذي أرساه سعادة كحجر أساس لعقيدته. ولتوضيح المصطلح للقارئ، يمكن القول إنه محاولة للجمع بين المادة والروح، والفرد والجماعة، في رؤية فلسفية جامعة للطبيعة الإنسانية. لكن جنبلاط رأى في هذا المفهوم تبسيطًا يحصر الإنسان في إطار ضيق؛ فبدلًا من أن يُحرر الفرد، يُحبَس هذا التصور في قوالب محددة، محوّلًا القومية من شعور بالانتماء إلى أداة للهيمنة الفكرية والسياسية.


لم يكتفِ جنبلاط برفض الفكرة، بل قدّم بديلًا: قومية متطورة ومنفتحة، تنبض بالحياة، تتعايش مع التعددية، وتجعل العدالة والحرية غايتها الأولى. وهنا ميّز بتمييز حاسم بين "القومية الحقيقية" التي تثري المجتمع وتقويه، و"القومية المطلقة" الجامدة، التي رأى فيها صدى للفاشيات الأوروبية مثل الفاشية الإيطالية والنازية، حيث يذوب الفرد في بوتقة الجماعة وتطمس حقوقه في سبيل عقيدة مغلقة. ويمكن تقريب الفكرة بمثال: فالقومية عند جنبلاط تشبه الشجرة التي تنمو وتتشابك جذورها مع غيرها، بينما عند سعادة تميل إلى أن تكون سورًا حجريًا يحاصر من بداخله.

علاقة معقدة: الخصم الفكري والمدافع عن العدالة

قد يبدو جنبلاط في نقده اللاذع خصمًا لدودًا لسعادة، لكن التاريخ يكشف قصة أكثر تعقيدًا وإنسانية. بعد إعدام سعادة في عام 1949، لم يتردد جنبلاط، رغم خلافاته الفكرية، في التعبير عن سخطه على الطريقة التي نُفذ فيها الحكم. لقد وقف مدافعًا عن مبدأ المحاكمة العادلة وكرامة الإنسان، حتى لمن يختلف معه إلى أبعد الحدود.

هذه الواقعة تكشف جوهر شخصية جنبلاط: مفكر يرفض أن يتحول النقد الفكري إلى عداء شخصي، وسياسي يضع المبادئ الإنسانية فوق كل اعتبار. إنه درس بليغ في الفصل بين رفض الفكرة والدفاع عن حق صاحبها في العدالة، وهو ما يرتبط بعمق تفكيره السياسي وإنسانيته.

الكتاب كمرآة لزمنه: السياق والتأثير

من المهم النظر إلى الكتاب ضمن السياق التاريخي والسياسي الذي أُنتج فيه، لا باعتباره نصًا مجردًا. ففي خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كان لبنان والمشرق العربي يغليان بالتيارات القومية، من الناصرية إلى البعثية، وكان كل تيار يسعى إلى فرض رؤيته على المجتمع. في هذا المناخ، جاء كتاب جنبلاط كصوت نقدي مميز.

لم يكن كتاب أضواء على حقيقة القضية القومية الاجتماعية السورية (الطبعتان المهمتان: طبعة لجنة تراث المعلم الشهيد 1980، وطبعة الدار التقدمية 1987) منعزلًا عن سياقه. وتكتسب طبعة 1987 أهمية إضافية لاحتوائها تعديلات وإيضاحات تعكس مراجعة أعمق وتحليلاً أكثر دقة للنقد السياسي والفلسفي، ما يجعله وثيقة ثمينة لفهم الفكر القومي في لبنان والمشرق العربي.

إرث الكتاب: لماذا لا يزال مهمًا اليوم؟

يظل الكتاب مرجعًا أساسيًا لأي باحث يرغب في فهم تيارات الفكر القومي في المشرق العربي، وتحديدًا الحزب السوري القومي الاجتماعي، مع ملاحظة ضرورة شرح المنظومة للقارئ غير المختص عند أول ذكر. لكن قيمته تتعدى كونه وثيقة تاريخية؛ فهو نموذج للفكر النقدي المسؤول، يعلمنا كيف نخضع العقائد السياسية للفحص والتمحيص دون أن نفقد إنسانيتنا أو نصبح خصومًا متعصبين.

في عصرنا الحالي، حيث تعود الأيديولوجيات المتطرفة والخطابات الشعبوية للواجهة، تتجلى رسالة جنبلاط أكثر من أي وقت مضى: أن القومية الحقة تُبنى على التسامح والعدالة، لا على الإقصاء والكراهية، وأن دور المثقف أن يكون ضمير أمته لا بوقًا للسلطة أو العقيدة.

خاتمة: جنبلاط وسعادة.. لقاء في ساحة الفكر

في النهاية، يبقى كتاب كمال جنبلاط شاهدًا على حوار فكري لم تنته فصوله بعد. إنه الحوار بين الانتماء والانفتاح، الهوية والحرية، سلطة العقيدة وضمير الفرد. قدم جنبلاط نقدًا لمشروع سعادة، لكنه، بطريقة غير مباشرة، قدّم أيضًا رؤيته لمشرق مختلف، قائم على قيم إنسانية رفيعة.

قراءة الكتاب اليوم ليست مجرد استعادة للماضي، بل استعارة لمصباح يضيء تحديات حاضرنا. إنها دعوة للوفاء للأوطان دون خيانة العقل، والدفاع عن العدالة حتى لأولئك الذين نختلف معهم. هذا هو الإرث الفكري العظيم للمعلم كمال جنبلاط، الذي يربط بين النقد العميق والإنسانية الحقيقية.

الأكثر قراءة

العالم العربي 9/29/2025 5:14:00 PM
"نحن أمام مشروع ضخم بحجم الطموح وبحجم الإيمان بالطاقات"
المشرق-العربي 10/1/2025 6:00:00 PM
"خرج صباح الإثنين  من مستشفى بضواحي العاصمة الروسية".
صحة وعلوم 10/1/2025 4:04:00 PM
وأعلنت الحكومة في وقت سابق أن ستة آلاف طفل أصيبوا بالتسمم الغذائي.
ايران 10/1/2025 12:29:00 AM
ذكرت تقارير أن أضخم حاملة طائرات أميركية "يو إس إس جيرالد آر" عبرت مضيق جبل طارق متجهة نحو البحر الأبيض المتوسط خلال الساعات الماضية