التّفاهم السّوري الإسرائيلي... مناورة أم تحوّل؟

بقيت جبهة الجولان السوري المحتل هادئة نسبياً، برغم كل الزلازل التي ضربت المشهد السوري والإقليمي، إلا أن الأحداث الأخيرة، والتقارير المتقاطعة من مصادر ديبلوماسية وإعلامية، تكشف عن تطور غير مسبوق: مفاوضات معلنة وغير معلنة، متعددة المسارات، بين سوريا وإسرائيل، قد تُفضي إلى تفاهمات أمنية تُعيد رسم قواعد الاشتباك في الجنوب السوري.
نقلت وكالة "رويترز" عن توم براك، المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، أن الطرفين (سوريا وإسرائيل) باتا "على وشك" التوصل إلى اتفاق لتهدئة الوضع، يتضمن التزاماً إسرائيلياً بوقف الهجمات، مقابل تعهد سوري بعدم تحريك معدات ثقيلة قرب الحدود. لكن اللافت هنا، ليس فقط في فحوى الاتفاق، بل في اللغة التي استخدمها براك: اتفاق لتهدئة الوضع وليس اتفاقاً أمنياً أو ترتيبات طويلة الأمد. وهذا يعكس فجوة لا تزال قائمة، وإدراكاً أميركياً لحدود ما يمكن إنجازه في هذه المرحلة.
تقارير إعلامية، بينها ما نشره موقع "أكسيوس" الأميركي، تشير إلى أن جولات من المفاوضات جرت في عواصم أوروبية وأخرى محايدة، مثل أذربيجان، تحت رعاية أطراف إقليمية وبضمانات دولية. هذا المسار، وإن لم يُتوّج باتفاق نهائي بعد، إلا أنه يشي بوجود استعداد سياسي – ولو محدوداً – من الطرفين لفتح قنوات تفاهم، بعيداً من الأضواء.
الرئيس السوري، أحمد الشرع، وصف هذه التفاهمات بأنها ضرورية، لكنه شدد على أن التطبيع والسلام ليسا مطروحين، وأن قضية الجولان مؤجلة حتى إشعار آخر. هنا نلمس براغماتية سورية جديدة: لا تنازلات مجانية، ولا تطبيع بلا ثمن سياسي حقيقي. سوريا، حتى في أضعف حالاتها، لا تزال تُمسك بورقة السيادة كورقة تفاوضية، ترفض التفريط بها.
منذ أن خرقت إسرائيل اتفاقية فض الاشتباك الموقعة عام 1974، وتحديداً بعد 8 كانون الأول/ديسمبر الماضي، صعّدت تل أبيب من هجماتها في العمق السوري، ووصلت قواتها إلى حدود غير مسبوقة، بضعة كيلومترات من دمشق، وخلال الأشهر الماضية فقط، نفذت إسرائيل أكثر من ألف غارة جوية و400 توغل بري، وفق مصادر رسمية.
في هذا السياق، تبدو التهدئة، إن حصلت بمثابة محاولة لتجميد التصعيد، وليس لحل جوهري. كما أن سجل إسرائيل في الالتزام بالاتفاقيات الأمنية المؤقتة ليس مطمئناً، حيث سبق أن خرقت تفاهمات مماثلة في جنوب لبنان وسوريا. ويزداد هذا القلق إذا ما استمرت إسرائيل في ربط الملف السوري بملفات وقضايا أخرى.
ما نراه اليوم هو مشهد معقّد من الترتيبات المؤقتة، تفاهمات تقنية، قد تشمل انسحاباً جزئياً، نقاط مراقبة، أو حتى خطوط تماس جديدة، تهدف إلى منع التصعيد أكثر من تحقيق سلام شامل. وهو نهج براغماتي من الطرفين، يراعي التوازنات الإقليمية والدولية، من دون أن يُلزم أحدهما بتنازلات استراتيجية.
من الواضح أن إسرائيل، المنهمكة حالياً في ملفات غزة ولبنان والداخل المحتقن، تسعى لضبط الجبهة السورية كي لا تتحول إلى ساحة اشتباك إضافية. في المقابل، تسعى دمشق إلى استعادة بعض من الهامش السيادي، وتفادي الانجرار إلى مواجهات قد تعيق مسار الانتقال السياسي أو إعادة التموضع الإقليمي.
قد تكون هذه المفاوضات هي البداية لمرحلة التهدئة الذكية في الجنوب السوري، لكنها ليست، بأي حال، مقدمة لسلام أو تسوية دائمة. ما نشهده هو إدارة للأزمة، لا حل لها. وكل ما يُبنى على هذا الأساس، سيبقى هشاً، وقابلاً للانهيار عند أول اختبار جدي.
ومع ذلك، فإن مجرد الحديث عن اتفاق سوري–إسرائيلي ولو غير مباشر في هذه اللحظة من تاريخ المنطقة، هو حدث يستحق التوقف عنده. فهو يعكس ليس تبدل الأولويات وحسب، بل أيضاً تغير قواعد اللعبة الإقليمية، حيث لا مكان للمواقف الثابتة، بل للتكتيك والحسابات الباردة.
يبقى القول، ما يغيب عن هذه التفاهمات – حتى الآن – هو الصوت السوري الداخلي، الذي يبقى غائباً عن طاولة المفاوضات، وحاضراً فقط في نتائجها.
* باحث ومستشار سياسي
-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.