من شُرفة المغرب إلى قلب الأمة

آراء 25-09-2025 | 00:15

من شُرفة المغرب إلى قلب الأمة

فكرة صغيرة وُلدت فى مدينة على أطراف المحيط الأطلسي، فإذا بها تتحول، خلال أكثر من أربعة عقود من المثابرة، إلى منارة مضيئة في خريطة الثقافة العربية. تحولت «أصيلة» من منتدى عابر إلى مركز ثقافي وسياحي راسخ...
من شُرفة المغرب إلى قلب الأمة
لا يُذكر اسم أصيلة إلا ويُذكر معها مهرجانها الثقافي الأخّاذ، ويُستحضر وجه ابنها البار محمد بن عيسى.
Smaller Bigger

تأتي الدعوة إلى مهرجان «أصيلة» هذا العام، وقد غيّب الموت مؤسسه وملهمه محمد بن عيسى، وزير الخارجية المغربي الأسبق. ولا يُذكر اسم أصيلة ـ تلك المدينة الصغيرة الموشّاة بجمال البحر وهدوء الريح ـ إلا ويُذكر معها مهرجانها الثقافي الأخّاذ، ويُستحضر وجه ابنها البار محمد بن عيسى، الرجل الذي وُلد بين جدرانها البيضاء، وارتوى من هوائها، ثم حمله القدر إلى القاهرة شاباً ليدرس الصحافة، قبل أن تأخذه السياسة إلى أصقاع الأرض سفيراً ووزيراً، من دون أن تنتزع منه عشق الثقافة أو تشوّه شغفه ببناء جسور التواصل العربي والإنساني.

لقد كان تأسيس المهرجان فعلاً أشبه بالمعجزة الثقافية: فكرة صغيرة وُلدت فى مدينة على أطراف المحيط الأطلسي، فإذا بها تتحول، خلال أكثر من أربعة عقود من المثابرة، إلى منارة مضيئة في خريطة الثقافة العربية. تحولت «أصيلة» من منتدى عابر إلى مركز ثقافي وسياحي راسخ، يفتح أزقته البيضاء ذات الطابع المتوسطي لتكون لوحات فنية نابضة، ويقدّم نفسه كأكبر معرض مفتوح للفن على ضفاف الأطلسي، يضم أعمالاً تشكيلية ومنحوتات وألواناً تتراقص بين جدران المدينة وتغني الحواس ببهجة لامتناهية.

فى كل موسم، كانت «أصيلة» تُثبت أنها ليست بعيدة عن قلب الثقافة العربية، بل هي قلبها النابض. يتوافد إليها كبار المفكرين والكتّاب والفنانين من أصقاع الأرض، فيتحول منتجعها الهادئ إلى ورشة حوار متقدة، تتسع لقضايا الساعة وهواجس الأمة، ولتطل من على شرفاتها رؤى فكرية تنير عقول الزائرين وتشحذ طاقات الشباب العربي نحو الإبداع.

 

رحل محمد بن عيسى جسداً، لكن روحه لا تزال تسكن حجارة المدينة، وتطل من جدارياتها، وتبقى بصمته محفورة فى ذاكرة العرب جميعاً، كرمز للإصرار على الثقافة والحفاظ على روح الانتماء والوعي.

وإذا كانت «أصيلة» تُلهمنا بمهرجانها، فإن المغرب كلّه يُلهمنا بتحولاته الكبرى. فمن خلال سنوات المتابعة والاقتراب، أرى بوضوح كيف صنع هذا البلد لنفسه تجربة فريدة، قوامها الثقافة والعيش المشترك. يكفي أن نعلم أن المغرب يحتضن نحو سبعين مهرجاناً ثقافياً وفنياً فى العام الواحد، وربما أكثر، فلا تكاد مدينة فيه تخلو من مهرجان للفنون أو السينما أو الأدب. وهو مشهد لا يعكس مجرد ترف فني، بل يعكس رؤية عميقة جعلت من الثقافة جسرَ هوية وأداة انفتاح، وحافزاً على الحوار والالتقاء بين الحضارات والثقافات المختلفة.

وهنا تقف تجربتان مغربيتان شاهداً على وعي عميق متجذّر:

الأولى، تجربة العيش المشترك، حيث التنوع الإثني والديني والثقافي لا يبعث على الفرقة بل يُثمر قبولاً واحتراماً. وفى أزقة المدن وزوايا القرى ترى هذا التنوع يتجلى فى الابتسامات واختلاط اللغات المشتركة، وفى أصوات الأذان والأناشيد الشعبية، كلها تتناغم فى سيمفونية الحياة اليومية.

والثانية، تجربة اللامركزية، حيث توزعت التنمية على اثنتي عشرة جهة بمجالس إداراتها المنتخبة، لتخرج البلاد من أسر المركزية إلى فضاء التنافس البنّاء، وتمكّن كل مدينة من تطوير بنيتها التحتية وثقافتها وفنونها وفق خصوصيتها وهويتها. وهكذا صار المغربي من طنجة إلى الصويرة ـ متمسكاً بهويته الجامعة، فخوراً بمدينته وقريته، معتزاً بمغربه الكبير، ومفتخراً بما تحقق من توازن بين الانتماء المحلي والهوية الوطنية. بهذا النهج، لم يعد التنوع مصدر تشظ، بل أصبح طاقة نهوض وإبداع.

 

صارت المدن تتباهى بما تقدمه من عمران وثقافة ومبادرات، حتى غدت مهرجاناتها علامات مضيئة على خريطة الحياة الثقافية. ولعل أجمل ما في التجربة أن الثقافة لم تُختزل فى ديكور جانبي للسياسة، بل فرضت حضورها لتمنح السياسة معنى أكثر رحابة، وتجعلها شريكاً في صناعة مستقبل آمن ومستدام، ويُقدّر المواطنُ ثقافته وهويته.

وها أنا من على شرفة المغرب فى طنجة، حيث يلتقي الأطلسي بالمتوسط، وعلى مرمى حجر من أوروبا، وخطوات من إفريقيا، فى رحاب حكايات ابن بطوطة المدهش، وفي لقاء تتقاطع فيه الحوارات العربية فى خضم الندوات المتواصلة، تطل الأسئلة كالموج لا تهدأ. هنا فى أقصى نقطة من الوطن العربي، تدرك أنك لست على الهامش، بل في القلب تماماً: في قلب اللغة والفن، وفي قلب الانتماء العربي الذى لا ينطفئ شغفه ولا يخمد حماسه.

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

اقتصاد وأعمال 11/20/2025 10:55:00 PM
الجديد في القرار أنه سيتيح للمستفيد من التعميم 158 الحصول على 800 دولار نقداً إضافة إلى 200 دولار عبر بطاقة الائتمان...
سياسة 11/20/2025 6:12:00 PM
الجيش اللبناني يوقف نوح زعيتر أحد أخطر تجّار المخدرات في لبنان
سياسة 11/22/2025 12:00:00 AM
نوّه عون بالدور المميّز الذي يقوم به الجيش المنتشر في الجنوب عموماً وفي قطاع جنوب الليطاني خصوصاً، محيّياً ذكرى العسكريين الشهداء الذين سقطوا منذ بدء تنفيذ الخطّة الأمنية والذين بلغ عددهم 12 شهيداً. 
مجتمع 11/21/2025 8:31:00 AM
تركيا وسواحل سوريا ولبنان وفلسطين ستكون من بين المناطق المستهدفة بالأمطار بعد إيطاليا