من تشارلي كيرك إلى صخرة الروشة... فائض موتنا وآرائنا

نحن بارعون في امتلاك فائض من الآراء: لنا رأي في كل شيء، ورأي في رأي الآخر، بل ورأي في الآخر نفسه. نُدير أعيننا عن جحيم يومياتنا، ونُمعن في الغرق في قضايا قد لا تعنينا مباشرة، لننصبّ بكل حماسة على ما يجري خارج حدودنا.
كالعادة، تباينت ردود الأفعال. بعض الآراء شمتت بالموت، وبعضها الآخر كان حزيناً، فيما رأى فريق ثالث أنّ ما جرى ليس إلا مؤامرة جديدة، وطبعاً هناك الفئة غير المبالية التي تمرّ الأحداث عندها مرور الكرام.
فمن جهة، شارك كثيرون مقاطع فيديو لتشارلي كيرك مع ولديه، وظهرت علامات الحزن العميق في حالاتهم (ستوريز) على "واتساب" وغيره، لتتضاعف مشاعر التعاطف مع أرملته ويتم طفليه. آخرون ركّزوا على أنّ الرجل كان مدافعاً شرساً عن القيم المسيحية، وكتب أحدهم تعليقاً جاء فيه: "خبر انتقال خادم الرب تشارلي كيرك كان له تأثير عميق داخل كل شخص مسيحي. ولكن بحسب معرفتي، أحياناً تكون للرب حكمة أبعد مما يدركه الإنسان. سوف نرى ثمار هذا الأمر بعد أشهر، وسنرى يد الرب تتعامل في كل شيء".
في المقابل، علت أصوات أخرى مشككة بالحادثة. ناشط على منصة "تيكتوك" - يتابعه نصف مليون شخص - كتب: "نحن نعيش في مسرحية. هذه ليست حادثة حقيقية بل مفتعلة. كيف انتقل الخاتم من الخنصر إلى البنصر لحظة الاغتيال؟".
إلى جانب هذه المواقف، كان هناك من رأى أنّ الدعم اللامتناهي الذي عبّر عنه كيرك لإسرائيل "بدأ يتزعزع في الآونة الأخيرة، وأنّ القرار باغتياله لم يكن إلا نتيجة طبيعية لذلك".
أما الكوميدي والطبيب المصري باسم يوسف، فوسّع دائرة النقاش إلى أبعاد أعمق، قائلاً: "حادثة إطلاق النار على تشارلي كيرك مجرد قطعة صغيرة من اللغز الذي لم يعد لغزاً بل أصبح واقعاً. واقع نعرفه منذ زمن طويل. نعم، لقد شاهدنا هذا الفيلم من قبل، لأننا نأتيكم من ماضينا لنحدثكم عن مستقبلكم، ومستقبلكم ينهار أمام أعيننا. هناك حريات مذهلة وحرية تعبير رائعة ما شاء الله، لكن هذا كل ما تبقى لنا. لا يهم كم تحتج... الآلة لا تكترث لكلامك. غزة كشفت كل شيء! يمكنك استخدام كيرك لبدء حرب وسيكون ذلك مبنياً على الأكاذيب نفسها من الخوف والكراهية. وقد فعلوا ذلك في العراق وسوريا وفيتنام وفلسطين. والأمر مستمر منذ الأزل."
خرجت ناشطة على مواقع التواصل برسالة انتقدت فيها النفاق في الحزن على شخص واحد مقابل التجاهل التام لضحايا آخرين أقرب إلينا جغرافياً. كتبت: "كم من أسرة فلسطينية تفقد أباها يومياً في بلد لا يبعد سوى كيلومترات قليلة عنا، لكن لا نشهد ردّات الفعل نفسها....".
تنجيم… "آخر خطاب"
ولم يتأخر "علم التنجيم" عن أخذ حصته من المشهد. فقد عاد البعض إلى أرشيف التوقعات وأخرجوا مقطعاً قديماً لليلى عبد اللطيف، قالت فيه: " سيكون آخر خطاب تلقيه شخصية بارزة في العالم قبل أن يقتل أو يختفي، وسنرى هذا الحدث عبر الشاشات. سيبقى مصيره مجهولاً لفترة، وهنا ستكون المفاجأة والصدمة. بين خطابه وخطفه أو مقتله ستكون الفترة الزمنية قصيرة جداً".
أما أنا – ما دام للجميع رأي فلمَ لا؟ – فأقول: أكره رخص موتنا. أكره كيف أصبح الموت عندنا عادةً، وكيف اعتدنا أن يمرّ أمامنا مرور الكرام. هكذا يتحوّل ضحايا الجنوب والبقاع وغزة مجرد أرقام جامدة. نعبر بهم ولا يعبرون فينا!
لا أتمنى الموت لأحد، ولا اليتم لأي طفل، وما يدهشني هو الصمت حيال يتم عشرات الآلاف من شعوبنا. ألا شفقة ليتامانا؟ ولماذا هذا التمييز الفاقع في ردات الفعل؟
والانقسام حول حادثة إضاءة صخرة الروشة بصورتي الأمينين العامين السابقين لحزب الله يصبّ عندي في الخانة نفسها. ومن هنا، كابنة بيروت، أرى أنّ الأجدر بنا – نحن المواطنين والناخبين في العاصمة – أن نطالب نوابنا بالانشغال بشؤوننا اليومية، بدل الانغماس في فائض الآراء حول ما لا ينفع وربما يضر.
لكان يسعدني من رأسي حتى أخمص قدمي لو اجتمع نواب العاصمة على معالجة أزماتنا الحقيقية: من رائحة النفايات التي تعبق في المدينة، إلى البنية التحتية المتهالكة، وصولاً إلى عشرات التفاصيل اليومية التي تثقل حياتنا. أما النقاشات ، فأجلوها للحملات الانتخابية