آراء 17-09-2025 | 12:57

عودة المقايضة... روسيا تتحدى الدولار والعقوبات

ما يجري ليس مجرد هروب تكتيكي من العقوبات، بل تعبير عن تحول استراتيجي في فهم الاقتصاد العالمي، وتحدٍ مباشر للنظام الذي أرسته واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية. 
عودة المقايضة... روسيا تتحدى الدولار والعقوبات
الخطوات الروسية، حتى وإن كانت محدودة، ترسم ملامح نظام عالمي جديد. (أ ف ب)
Smaller Bigger

في خطوة تُعيد الذاكرة إلى بدايات ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تعود روسيا اليوم الى استخدام آلية المقايضة في تجارتها الخارجية، وسيلة للتغلب على تعقيدات العقوبات الغربية التي شلّت جزءاً كبيراً من قدرتها على التحويلات البنكية والتجارة الدولية عبر القنوات الرسمية.

ليست المقايضة ظاهرة جديدة في تاريخ روسيا، لكنها اختفت تدريجاً مع توسع الاقتصاد الروسي واندماجه في المنظومة المالية العالمية. أما اليوم، فتدفع العقوبات الغربية موسكو إلى إحياء هذا النمط البدائي من التبادل التجاري، بحيث تجري مبادلة القمح بالسيارات الصينية، وبذور الكتان بمواد البناء، بحسب "رويترز"، في صورة تُذكّر العالم بأن العولمة ليست قدراً لا رجعة فيه، بل يمكن أن تنكفئ تحت ضغط الجغرافيا السياسية.

ورغم أن حجم هذا النشاط لا يزال غامضاً، إلا أن ثمة مؤشرات واضحة تشير إلى ازدياده. فبيانات الجمارك، وتصريحات بعض الشركات، إضافة إلى مصادر تجارية متعددة، تؤكد أن المقايضة لم تعد مجرد خيار هامشي، بل باتت وسيلة ممنهجة للالتفاف على القيود المالية.

قطاع الطاقة، وعلى رأسه النفط، يشكّل حجر الزاوية في التحركات الروسية. (أ ف ب)
قطاع الطاقة، وعلى رأسه النفط، يشكّل حجر الزاوية في التحركات الروسية. (أ ف ب)

 

من يراقب مسار التبادل التجاري الروسي يدرك أن قطاع الطاقة، وعلى رأسه النفط، يشكّل حجر الزاوية في التحركات الروسية. وفي هذا السياق، يبدو أن دولاً آسيوية مثل الهند والصين، اللتين تشتريان النفط الروسي بأسعار تفضيلية، باتتا منخرطتين بشكل غير مباشر في هذه الديناميكية الجديدة.

لكن لا يمكن فصل هذا التحول الروسي عن الخلفيات الأوسع للنظام التجاري العالمي، خصوصاً السياسات الحمائية التي أعادت تشكيل العلاقات التجارية في السنوات الأخيرة. فقد فرضت الولايات المتحدة، في عهد الرئيس دونالد ترامب، رسوماً جمركية قاسية على الصادرات الصينية والهندية، بحجة حماية الصناعات المحلية الأميركية. وبدلاً من أن تؤدي هذه الإجراءات إلى عزل الصين أو تقليص نفوذها الاقتصادي، دفعتها إلى تعزيز تحالفاتها التجارية مع شركاء غير غربيين، وعلى رأسهم روسيا.

وعليه، فإن استخدام المقايضة لا يخدم روسيا وحدها، بل يوفر للصين والهند فرصاً للوصول إلى موارد استراتيجية خارج النظام المالي الغربي، وفي الوقت نفسه يتيح لهما مقاومة الضغوط التجارية الأميركية من دون الدخول في مواجهات مباشرة.

ما تحاول روسيا أن تفعله اليوم ليس فقط الالتفاف على العقوبات، بل السعي الى تقليص الاعتماد على الدولار، وهو هدف قديم جديد لدى العديد من الدول كالصين وروسيا وإيران. لكن أي محاولة جادة لإنشاء نظام مالي بديل تتطلب وقتاً، وتوافقاً دولياً، لا يبدو أنه متاح بالكامل في ظل استمرار هيمنة الدولار على 80% من التجارة العالمية.

لكن رغم ذلك، فإن هذه الخطوات -حتى وإن كانت محدودة - ترسم ملامح نظام عالمي جديد، أقل ارتباطاً بالغرب، وأكثر ميلاً إلى تعددية المحاور.

ما يجري ليس مجرد هروب تكتيكي من العقوبات، بل تعبير عن تحول استراتيجي في فهم الاقتصاد العالمي، وتحدٍ مباشر للنظام الذي أرسته واشنطن بعد الحرب العالمية الثانية. فحين تتبادل روسيا الفولاذ بمحركات بحرية، أو القمح بمعدات إلكترونية صينية، فإنها لا تعود إلى أدوات قديمة فحسب، بل تؤسس لمرحلة اقتصادية مختلفة، أكثر تعقيداً، وأقل شفافية.

وإذا كانت البنوك تخشى التعامل مع روسيا خشية العقوبات، فإن الدول باتت تبحث عن طرق أخرى لحماية مصالحها بعيداً من منطق الردع الأميركي. وقد نشهد في السنوات المقبلة نمواً في الاقتصاد الموازي، ليس بمعناه الإجرامي، بل كشبكة تبادل بديلة، تعيد رسم مسارات التجارة خارج حدود البنوك الغربية.


وما بين مقايضة السلع وتقييد الدولار ورسوم ترامب الحمائية، تتشكل بيئة اقتصادية جديدة، لا تعترف بالنظام التجاري التقليدي، ولا تخضع بالكامل لقواعد اللعبة القديمة. روسيا قد تكون في موقع دفاعي، لكنها في الوقت ذاته تجر خلفها دولاً كبرى لإعادة التفكير في بنية الاقتصاد العالمي.

يبقى القول، لقد دُفعت روسيا إلى المقايضة، لكن العالم كله سيدفع ثمن التحولات التي فرضتها السياسة على الاقتصاد.

 

*باحث ومستشار سياسي 

-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.

الأكثر قراءة

العالم العربي 9/29/2025 5:14:00 PM
"نحن أمام مشروع ضخم بحجم الطموح وبحجم الإيمان بالطاقات"
تحقيقات 9/30/2025 4:06:00 PM
تقول سيدة فلسطينية في شهادتها: "كان عليّ مجاراته لأنني كنت خائفة"... قبل أن يُجبرها على ممارسة الجنس!
ثقافة 9/28/2025 10:01:00 PM
"كانت امرأة مذهلة وصديقة نادرة وذات أهمّية كبيرة في حياتي"
اقتصاد وأعمال 9/30/2025 9:12:00 AM
كيف أصبحت أسعار المحروقات في لبنان اليوم؟