آراء 06-09-2025 | 07:27

في أريعين زياد الرحباني... الوجع والحب، المواطَنة العذبة والمواطَنة المعذبة

يوم دفنه، قطف التاريخ كرومه التراثية ليضعها في خوابيه الخالدة
في أريعين زياد الرحباني... الوجع والحب، المواطَنة العذبة والمواطَنة المعذبة
زياد الرحباني (أرشيفية).
Smaller Bigger

 السفير جبران صوفان

إذا لم يتذوّق إنسان بعد ثمار البحر، فالأجدر به أن يذوق إرث زياد الرحباني. إنه ثمار بحره الهائج  ومحيطه الهادئ على مضض. لم يوضع زياد الرحباني في نعش خشبي لينتهي في مثواه الأخير،  فلا يُعلّب التراث الحيّ في موضع الأموات.

 

 

 

يوم دفنه، قطف التاريخ كرومه التراثية ليضعها في خوابيه الخالدة. قد يكون استفردها لفرادة مذاقها،  الخليط من مرارة اللبنانيين وعمق التجربة وعذوبة النغم . إنها الموسيقى، كحول الروح لبلسمة جروح الأفئدة المعذّبة. لذلك، فالإبحار لإستقراء هذا التراث الفضفاض دونه صعوبات لمن يجهل مثلي أصول الغوص فيه أومهارة العوم تلافياً للغرق. حسبي أن أستخلص ما استوقفني من عِبَرٍ في بلدٍ قلما عَبَرَ إلى الخلاص بل عانى من النواقص المزمنة، لعلّ خلاصاتي تجدي فيما لبنان يستجمع قواه رغم مخاطر الفشل ومحاولات الإفشال. 

 

توّفر لنا "ساغا" "Saga" زياد الرحباني مسلّمات بديهية لديمومة الدولة والكيان، وحافزاً لتصحيح الإعتقاد بحتمية الحزن  والوجع كنمط طبيعي في حياة اللبنانيين.
أولاً – "الشعب" الرحباني و "الشعوب" اللبنانية في مقوّمات "الدولة".

 

عند زياد الرحباني، وَجَدتُ عائلة متراصّة، وهي ظاهرة تتماهى مع إحدى مقوّمات الدولة ، فيما الجماعات اللبنانية هي في الواقع شعوب شعبوية ينتحل بعضها الصفات الأخوية والسموية، ويستثني  من عبادة الله الواحد الإبتهال إلى الأصنام السياسية.

 

في إنجيل يوحنا، عند المسيحيين، يُقرأ: "في البدء كان الكلمة ... وكان الكلمة الله".
في القانون الدستوري، في البدء كانت العائلة التي آلت إلى دولة كإطار تنظيمي ومؤسّسي متطوّر لممارسة السلطة.

 

مسافات شاسعة لا تزال تفصل الجماعات اللبنانية عن مفهوم الدولة التي سبقها، في رأيي، زياد الرحباني   بأشواط من حيث نسيج بيئته ومشاعرها وقناعاتها. وبمعنى آخر، لدى زياد الرحباني اللُحمة المقترنة بالرؤية. وفي المجتمعات اللبنانية، يكثر "اللحّامون" و"القصّابون" لتقطيع أواصر الوطن.

 

في "سِفْر تكوين" الدولة، ثلاثة عناصر  مجتمعة هي الإقليم ( الأرض) والبشر والسيادة، والتفاعل في ما بينها، كما يبدي الأستاذ المحاضر في القانون العام  Michael Bardin ، وجميعها على صعيد لبنان في خطر. وألقي اللائمة في ذلك على عامل البشر. وفيما "المجتمعات الغابرة نشأت وتطورّت بعيداً من فكرة الإنعزالية، وكانت تستند  إلى مكوّنات وعناصر ساهمت في توثيق الروابط بين أفرادها" كما أشار الدكتور محمد مجذوب، في كتابه  "القانون الدستوري" ، أجد أن بعض الجماعات اللبنانية اتخذت مسارات معاكسة بانتهاج  التفرقة والهيمنة والتخوين والمكابرة والطائفية المسيّسة، وفي أحسن الأحوال باعتماد المهادنة والليونة المتقطّعة لتحسين المواقع. وباتت هذه الظاهرة مألوفة في تاريخ لبنان، مثل غيرها من المصطلحات كالمؤامرة والتآمر الرائجة في "العالم الثالث" القديم. إنه الإنتحار الجماعي، كمن يشنق قريبه بحبل من الحرير ويدّعي الحرص على المشاعر الإنسانية ولباقة التصرّف. وما يحصل عملياً هو التطابق بين السلاسة والسلاسل. ومن العبث  اعتبار هكذا تصرّفات عماداً للوطن. إنها مقاربة مخِبرية تعوزها الروح وتنتج تركيبة كيميائية و"وطنية" ميتة.

 

ليس بكثرة الصراعات والإملاءات والإنفعالات والمصطلحات والتجاذبات والتدخّلات ومعادلاتها يصان وطن، بل إنها الدليل على انفراط عقده وتناثر حبّاته. 

 

في محاضرة عن "تعريف الأمّة" يقول المفكّر الفرنسي Ernest Renan  أن مجتمع الأفراد الذين يكوّنون دولة ما "يعتمد على الإرادة الجماعية في العيش معاً وعلى الروح الوطنية، وهي في الواقع مبدأ وجداني".

 

وبما يتخطّى المواصفات المادية والتجريبية المتعلقة بالشعوب، يشدّد أنصار هذه المدرسة على عامل  "الفكر والرضى" وعلى دورالمُثل العليا في تعاضد الافراد والمجتمعات وعلى تمسّكهم بنمط عيش يوفّق بين السلوكيات والعادات المشتركة وبين التنوع المجتمعي والحياتي ضمن هيكل قانوني واحد، منظّم وحاضن بما يجعل أي فرد يجاهر بأن "الدولة هي قضيتي ومشروعي وشرفي" Jean – Yves Calvez- Introduction à la vie politique. 

 

وأتساءل عن المسافة التي تفصلنا عن تلك الدولة؟

 

ثانياً – المواطَنة العذبة والمواطَنة المعذّبة
 إن الأقرب إلى تلك الدولة "الفاضلة" هو زياد الرحباني وشعبه. في لبنان المسيّس، على سبيل المثال، تدخّلات ومداخلات، تهديد ووعيد بحرب أهلية. في "دولة" زياد الرحباني، الكلّ أهل. في محيط زياد الرحباني مواطَنة عذبة وجذابة ، وفي لبنان المواطَنة معذّبة ومعتقلة.  في تشييعه، لم أسمع بمحاصصة بل كان هو حصّة الجميع. في روايات مصّاصي الدماء - دراكولا وما شابه-  بعض الشعائر والطقوس والآلات الحادة وأشعّة الشمس تهلك تلك الوحوش الضارية. وفي مجتمع زياد الرحباني، نور الحب، الأمضى من الخناجر والسيوف، قضى على الطائفية. 

 

ليس أعظم من أن تنادي السيّدة المُحجّبة زياد الرحباني "إبننا الغالي" بوجع الأمومة، رافضة بقراءتي تبويب الأمومة في خانة دينية  معيّنة، ومطيحة "عرش" الطائفية  بدمعة .

 

كلمات هي أطروحة في المحبّة وبإعتقادي وجه آخر من الرسائل الإنسانية النبيلة.   أوليس بولس الرسول، الذي تكلّم بألسنة الناس والملائكة، أدرك مع ذلك بأنه دون المحبة  قد يصير " نحاساً يطنّ أو صنجاً يرنّ"؟ (رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس).
 وما لم تقله السيّدة والحشود المفجوعة أكمله طلال حيدر في حوار مرهف بمناشدة الراحل والتواعد معه خارج لبنان حيث يجمع الله ولا يفرّق البشر. ففي بلدنا "الحزن هو الحقيقة الواحدة والفرح كذبة والمؤاساة كذبة" كما تفوّه .  مشهد غير مألوف، وكأن حيّاً ميتاً يخاطب ميتاً حيّاً!

 

 على سبيل المناقشة، إذا جاز التعبير للتوضيح وبالإشارة إلى العلاقات الدولية، عندما التقى الرئيس المرجعي فؤاد شهاب الرئيس جمال عبد الناصر عام 1959 عند الحدود اللبنانية - السورية، لم يتخطّ إنشاً واحداً تلك الحدود، ولا تركه يتقدّم.

 

في العلاقات الإنسانية، طلال حيدر - الذي لا أعرفه - هو بطل عبور، شقّ أوتسترادات  وأفتتح جادات إلى أفئدة اللبنانيين ورواها من سلسبيل دموعه.
ومع ذلك لا أدري إذا كانت معمودية الحزن هي نعمة.

 

ثالثاً – "مرحباً أيها الحزن" Bonjour Tristesse      
أخشى الفلسفة كي لا أتوه فأتوسّل هداية. عند كل إنسان، هناك عزيز أو شهيد فارق الحياة.  ولكن في حضرة الموت، الحزن على زياد الرحباني كان جماعياً وتضامنياً. قدح القلوب وأنار عتمة المشاعر وربما أيقظ ضمائر. لذلك يرى الكاتب Charles Pépin  أن الحزن طبيعي وليس سلبياً طالما هو ظرفي. فالمهمّ ألا نخاويه، فنكرّر عندئذٍ مع الكاتبة الفرنسية Françoise Sagan، "مرحباً أيها الحزن" رغم تجاوزها المعاناة ووخز الضمير، كما تقول في كتابها بسبب فقدان سيّدة عاقلة. Paul Eluard الذي ألهم Sagan ذهب إلى حد التغزّل بالكآبة ذات "الوجه الجميل". حتى نزار قباني ، البرج الشاهق، شهق لحبّ امرأة أدخلته "مدن الأحزان"، فعرف "أن الدمع هو الإنسان". 

 

رابعاً – جبران خليل جبران ومشاعر الحزن واليأس والشقاء.
إذا أضفنا إلى الحزن اللبناني، اليأس الشعبي جرّاء المراوحة والبؤس والألم بفعل التراكمات والأزمات وكوارث حرب الإسناد، واستنباط المواثيق والميثاقية الجدلية حول الوحدة الوطنية، وضياع اللبناني بين اختلاف المعايير وتعارض المفاهيم،  أعي قعر الهاويات في بلدنا والحاجة الماسّة إلى المعالجات الجذرية. فقد أغفلنا العقل والتعقّل، العدل والإعتدال، دنونا من الحيوان ودخلنا مسلخ الأمم. فقدنا القدرة على أن نصعد سلّم الزمن، فقدنا القدرة على أن نطاول النجوم، أن نحيّيى القمر ونمسّيه، أن نسامر، أن نمازح ، أن نصادق القدر.

 

إزاء هذا العيش النمطي والسلبي، أتساءل عمّا إذا كان الحزن في لبنان حتمياً أم ظرفياً وعابراً،  وعمّا إذا كان الوجع وشماً دائماً في الكيان اللبناني؟ لا أدري، ولكن أجد ما يهدّئ روعي في كتاب "الأرواح المتمردة" لجبران خليل جبران حيث جاء: "باطلة هي الإعتقادات والتعاليم التي تجعل الإنسان تعساً في حياته. وكذّابة هي العواطف التي تقوده إلى اليأس والحزن والشقاء... لم نجئ هذا العالم كالمنفيين والمنبوذين بل جئنا كي نتعلم من محاسن الحياة وأسرارها عبادة الروح الكلّي الخالد واستطلاع خفايا نفوسنا".

 

بوفاة زياد الرحباني، طوِيت صفحة مجيدة ولكنها توطئة لصفحات وكتب حول الراحل الكبير. 

 

ومع إدراكي لغزارة المادة من أحاسيس وأفعال وإنفعالات وإنجازات، أعتقد أنه في جانب من شخصيته  هو روح عصيّة، ومن خلال نقده الدقيق هي بالتأكيد إصلاحية. في عالم الذكاء الإصطناعي،  أخال زياد الرحباني موسوعة ملحقة بمؤلفات جبران أو مكمّلة "أرواحه المتمردة".

 

وقد جسّد "القدرة على قول لا" إذا جاز التعبير باقتباس عنوان كتاب حديث لرئيس  حكومة فرنسا الأسبق Dominique De Villepin، Le Pouvoir De Dire Non، صدر في حزيران 2025.

 

ومنه اقتطفت فقرات، تصحّ في رأيي على  حالتنا: "كل شيء يبدأ بالقدرة على قول لا والتي تُمنَح لكل شخص في مواجهة ما يسيء إلى مستقبل الإنسانية وكرامة الجمهورية. إن الصحو يتطلّب هزّ ضمائرنا  والتخلّي عن ردود الفعل السياسية والحسابات التكتيكية الضيّقة... بل إنه يعني العودة إلى الحياة من الغيبوبة إذ غالباً ما نشعر بالضياع في مجتمع "زومبي" حيث لا أحياء ولا أموات وكل شيء يحصل نتيجة  الإنفعال أو العادة ".

 

ختاماً، آمل أن تحمل لنا الأناشيد الباكية على رحيل زياد الرحباني بشائر الفرج والفرح.

الأكثر قراءة

العالم العربي 9/29/2025 5:14:00 PM
"نحن أمام مشروع ضخم بحجم الطموح وبحجم الإيمان بالطاقات"
تحقيقات 9/30/2025 4:06:00 PM
تقول سيدة فلسطينية في شهادتها: "كان عليّ مجاراته لأنني كنت خائفة"... قبل أن يُجبرها على ممارسة الجنس!
ثقافة 9/28/2025 10:01:00 PM
"كانت امرأة مذهلة وصديقة نادرة وذات أهمّية كبيرة في حياتي"
اقتصاد وأعمال 9/30/2025 9:12:00 AM
كيف أصبحت أسعار المحروقات في لبنان اليوم؟