آراء 05-09-2025 | 10:30

قمة شنغهاي... تحولات في ميزان القوى أم مشهد رمزي؟

هل نحن فعلاً أمام بداية عالم متعدد القطب؟ وهل يمكن لمنظمة شنغهاي، التي بدأت مبادرة إقليمية أمنية، أن تتحول إلى تكتل قادر على مواجهة الهيمنة الأميركية؟ ثم، ما الذي يمكن أن يعنيه اللقاء الثلاثي بين زعماء الصين وروسيا وكوريا الشمالية؟
قمة شنغهاي... تحولات في ميزان القوى أم مشهد رمزي؟
اللقاء في شنغهاي لم يكن استعراضاً ديبلوماسياً عابراً. (أ ف ب)
Smaller Bigger

انعقاد قمة منظمة شنغهاي للتعاون في الصين لفت الأنظار ليس الى حجم الملفات التي ناقشتها فحسب، بل الى طبيعة الحضور السياسي. ففي الوقت الذي تتصاعد فيه التوترات بين الغرب من جهة ومحور روسيا–الصين من جهة أخرى، ظهر قادة دول تُعدّ تقليدياً من ضمن الحلفاء أو الشركاء الاستراتيجيين لواشنطن، مثل الهند وتركيا، جالسين إلى الطاولة ذاتها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الصيني شي جين بينغ، في مشهد بدا كأنه يعكس اتجاهاً دولياً نحو إعادة صوغ التحالفات.

فهل نحن فعلاً أمام بداية عالم متعدد القطب؟ وهل يمكن لمنظمة شنغهاي التي بدأت مبادرة إقليمية أمنية، أن تتحول إلى تكتل قادر على مواجهة الهيمنة الأميركية؟ ثم، ما الذي يمكن أن يعنيه اللقاء الثلاثي بين زعماء الصين وروسيا وكوريا الشمالية، وهل يحمل في طياته مؤشرات على تشكل تحالف عسكري مضاد للنفوذ الأميركي؟

منظمة شنغهاي للتعاون التي انطلقت عام 2001 من تحالف أمني إقليمي بين الصين، روسيا، ودول آسيا الوسطى، تطورت خلال العقدين الماضيين لتضم دولاً جديدة، وتوسعت أجندتها من مجرد التنسيق الأمني إلى ملفات أوسع تشمل الاقتصاد، الطاقة، والتقنية، ما يمنحها وزناً متزايداً في موازين العلاقات الدولية.

الهند، التي ترتبط بشراكة إستراتيجية مع واشنطن، كانت حاضرة في القمة، وكذلك تركيا العضو في الناتو، وهو ما يفتح الباب أمام قراءة أكثر تعقيداً لطبيعة الاصطفافات العالمية. فالمسألة لم تعد مجرد "مع" الغرب أو "ضده"، بل أصبحت ترتبط بمصالح متشابكة، وسعي بعض الدول الكبرى إلى هامش أكبر من الاستقلالية في علاقاتها الخارجية.

من المبكر الحديث عن نظام دولي متعدد القطب بالمعنى الكامل، فالمقومات الاقتصادية والعسكرية التي تضمن لأميركا موقع الصدارة لا تزال قائمة، لكن المؤشرات على تآكل التفوق الأميركي تتزايد، سواء في ساحات الحرب مثل أوكرانيا، أو في ميادين الاقتصاد العالمي.

ما يجري قد يكون بداية نظام انتقالي، عنوانه "التعددية التكتيكية"، بحيث تسعى دول مثل الهند وتركيا إلى الحفاظ على علاقات جيدة مع واشنطن من جهة، والانخراط في تكتلات بديلة تعزز من مكانتها الإقليمية من جهة أخرى. هذا لا يعني بالضرورة انحيازاً كاملاً إلى محور مضاد للغرب، بقدر ما هو تعبير عن تراجع قدرة واشنطن على فرض الاصطفاف الكامل كما كانت الحال في العقود السابقة.

رغم أن منظمة شنغهاي تضم في عضويتها دولاً تمثل أكثر من 40% من سكان العالم، وناتجاً إجمالياً ضخماً، إلا أن التحدي الأكبر أمامها يكمن في غياب الرؤية الموحدة. التباينات بين أعضائها، وخصوصاً بين الهند والصين، والهند وباكستان، وتفاوت النماذج الاقتصادية، تمثل عقبة أمام بناء جبهة متماسكة قادرة على تشكيل "مواجهة" فعلية للولايات المتحدة.

 

حضور أردوغان—كشريك حوار—يمنح أنقرة ورقة ضغط بين الناتو وفضاء أوراسيا. (أ ف ب)
حضور أردوغان—كشريك حوار—يمنح أنقرة ورقة ضغط بين الناتو وفضاء أوراسيا. (أ ف ب)

 

حضور أردوغان - شريك حوار - يمنح أنقرة ورقة ضغط بين الناتو وفضاء أوراسيا، ويرفع أسهمها كوسيط في ملفات غزة والطاقة والممرات. لكنه لا يعني خروجاً من الغرب، والرسوم الأميركية على الهند دفعت دلهي للاقتراب تكتيكياً من بكين، لكن الاستقلال الاستراتيجي يظل بوصلة الهند. إذن نحن أمام منصة توازنات توسّع هامش المناورة لآسيا وأوراسيا، وتضغط على واشنطن لتحدّث أدوات نفوذها بدل التعويل على هيمنة قديمة. 

ومع ذلك، فإن تزايد التنسيق في ملفات مثل الطاقة والاقتصاد الرقمي، وظهور دعوات متكررة لاعتماد العملات المحلية في التبادلات التجارية، قد يشير إلى نية حقيقية في تقليص الاعتماد على النظام المالي الغربي، وهو في ذاته تحدٍ للنظام الذي تقوده واشنطن.

وفي خضم هذا السياق، جاءت مشاركة الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون في لقاء ثلاثي جمعه بالرئيسين الصيني والروسي، لتفتح الباب أمام تكهنات كثيرة حول ملامح تحالف قد يتشكل، ولو بشكل غير رسمي، بين القوى الثلاث.

هذا اللقاء لم يكن استعراضاً ديبلوماسياً عابراً، بل جاء مدفوعاً بجملة من الوقائع: روسيا تخوض مواجهة مباشرة مع الناتو في أوكرانيا، الصين تحت ضغط مستمر في بحر الصين الجنوبي وتايوان، وكوريا الشمالية تعيش منذ عقود في ظل تهديد عسكري أميركي دائم. هذه المصالح المتقاطعة تُنتج تدريجاً قواسم استراتيجية مشتركة، قد تضع الأساس لتنسيق سياسي وعسكري في قادم السنوات.

لا يعني ذلك بالضرورة قيام حلف عسكري ثلاثي شبيه بحلف وارسو في القرن الماضي. فلا الصين ترغب في خسارة علاقاتها التجارية الضخمة مع الغرب، ولا روسيا مستعدة للدخول في سباق تسلح جديد يفوق قدرتها الاقتصادية. أما كوريا الشمالية، فهي تستفيد من هذا التنسيق لترسيخ شرعيتها وكسر عزلتها. لكن رغم ذلك، فإن احتمال قيام محور تنسيقي بين هذه الدول، يهدف إلى مواجهة الضغوط الغربية وتوسيع النفوذ السياسي والعسكري، لم يعد مستبعداً.

القوة الكامنة في هذا المحور تكمن في أنه لا يستند فقط إلى رغبة في التكتل، بل إلى حالة من السخط الدولي المتنامي حيال ما يُنظر إليه كتحكم غربي منفرد بمصير العالم. كثير من الدول باتت ترى أن النظام الدولي، منذ نهاية الحرب الباردة، أخضع لمعايير مزدوجة، تُشرّع تدخلات معينة وتُدين أخرى حسب مصالح واشنطن وحلفائها.

وبينما تعاني المنظومة الغربية من أزمات داخلية حادة، اقتصادية واجتماعية وسياسية، يبدو أن الشرق يعيد تنظيم صفوفه. روسيا رغم الحرب والعقوبات، لم تنهر كما توقع كثيرون. الصين تواصل صعودها الاقتصادي بثبات، وكوريا الشمالية، رغم العقوبات، لم تُبدِ أي نية للتراجع عن برامجها النووية.

لكن يبقى السؤال الجوهري: هل يملك هذا المحور القدرة الحقيقية على مواجهة الهيمنة الغربية؟

 

الإجابة معقدة. من حيث الإمكانات العسكرية، فإن القوى الثلاث مجتمعة تمثل تهديداً حقيقياً لأي مشروع غربي في مناطق نفوذها. من حيث الاقتصاد، ورغم القوة الصينية، يبقى التفوق الغربي قائماً. لكن ما يُحدث الفرق اليوم ليس الأرقام فحسب، بل الإرادة السياسية والرغبة في إعادة تشكيل النظام العالمي.

ربما لا يكون هذا المحور الثلاثي تحالفاً رسمياً على المدى القريب، لكن المؤكد أن العالم يعيش مرحلة انتقالية، تتقلص فيها قدرة أميركا وأوروبا على فرض إملاءاتهما كما في السابق. وقمة قادة منظمة شنغهاي، وما تلاها من مشاورات بين موسكو وبكين وبيونغ يانغ، ليست سوى مشهد جديد في هذا التحول العميق.


يبقى القول، أن تكتلات مثل شنغهاي لن تحل محل الغرب، لكنها قد تفرض عليه القبول بواقع جديد، عنوانه: لا أحد يحتكر النفوذ إلى الأبد.

 

*باحث ومستشار سياسي 

-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية.

الأكثر قراءة

العالم العربي 9/29/2025 5:14:00 PM
"نحن أمام مشروع ضخم بحجم الطموح وبحجم الإيمان بالطاقات"
تحقيقات 9/30/2025 4:06:00 PM
تقول سيدة فلسطينية في شهادتها: "كان عليّ مجاراته لأنني كنت خائفة"... قبل أن يُجبرها على ممارسة الجنس!
ثقافة 9/28/2025 10:01:00 PM
"كانت امرأة مذهلة وصديقة نادرة وذات أهمّية كبيرة في حياتي"
اقتصاد وأعمال 9/30/2025 9:12:00 AM
كيف أصبحت أسعار المحروقات في لبنان اليوم؟