لا يمكن تبنّي فتاوى ابن تيميّة في عصرنا
*العميد الطبيب محمد الدمشقي
ابن تيمية، الذي لُقِّب بـ"شيخ الإسلام في عصره"، كان بلا شك صاحب علم واسع واطلاع كبير وإنتاج غزير ومقدرة لافتة على الجدل والإقناع. لكنه كان أيضاً ابن بيئة مشبعة باضطرابات العصور الوسيطة، حيث الحروب والمجازر سادت المشهد، وقد شهد بنفسه اجتياحات التتار والمغول وما صاحبها من دمار. هذه التجربة القاسية تركت أثراً عميقاً في فكره، فارتبط ذهنه بخطر "العدو الخارجي" وتحجّر حول مفهوم الصراع، ما انعكس في فتاوى حملت روح التكفير وأجازت القتل والسبي لكل من خالف عقيدته.
ومع أن اختلاف الأديان في جوهره إرادة إلهية – {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة} – بهدف الحوار والتعارف والتفاعل الخلّاق بما يصوِّب الفهم، فإن فقه ابن تيمية أغلق باب هذا التفاعل، مفضّلاً المواجهة على الحوار. فالمياه الراكدة التي لا يدخلها تيار جديد لا بد من أن تفسد، وكذلك الفكر إذا انغلق على نفسه وتحنّط.
ولا يمكننا اليوم، في زمن تجاوزت فيه الإنسانية حدود الجغرافيا وارتقت إلى فضاء الفكر الحر و"لا إكراه في الدين"، أن نتبنّى فتاوى صيغت في مناخ مختلف تماماً وفي زمان مضى عليه الوقت وتطور فيه العقل والفهم لأربعة عشر قرناً خلت. بعض هذه الفتاوى صار أساساً لتفسيرات متشددة تبرر العنف باسم الدين وتشرّع التكفير وهذا ما يخالف تماماً قيم العصر الحديث وحقوق الإنسان. (ترى البعض لا يخجل من أن يتلفظ حتى بعبارات كـ"السبي" في عصرنا هذا، بعد ألف وأربعمئة عام من تطور البشرية والفكر ومفهوم الإنسانية، فإذا بهم يعيشون خارج الزمان).

إن إنصاف ابن تيمية يقتضي فهمه في سياق عصره، لكن إنصاف حاضرنا يقتضي ألا نسمح لذلك السياق بأن يتحكم في عقولنا وضمائرنا اليوم، ولا سيما أن القرآن نزل فيه قوله تعالى في سورة يوسف:
"إنّا أنزلناه كتاباً عربياً لعلّكم تعقلون"
أي لتفهموه وتفسّروه بعقولكم، لا لتتبعوه عميانياً أو لتُسجَنوا في فكر جامد. فأين العقل اليوم؟ لقد قتلناه مع ابن سينا وابن رشد، أو بالأحرى أُغلق علينا طريقه، فصار الفكر الحرّ والبحث العلمي مهدداً بالردّة أو التكفير في عقول المتشددين الذين عادت أعدادهم لتتنامى في العقود الأخيرة...
نبض