هندسة نزع الصواعق في لبنان المتأرجحة بين الإبطاء والتسريع، وأخطار انكشاف لبنان!

المحامي كارول سابا
يُحكى أن "بانورج"، أبرز شخصية في كتاب "مغامرات بانتاغرويال"، (رواية الأديب الفرنسي الشهير فرانسوا رابليه، المعروف عنه أنه من كبار أعلام التيار الإنساني الإنجيلي، المُناهض لعماء السلطات وللإكليريكية المصلحية)، بعد خلافٍ ومبارزةٍ غير مُكتملةٍ مع صاحب قطيع من الخراف على السفينة التي كانت تُقلهم، أراد أن يوقع الأخير بمكيدة تُضِرَّه، فشهر محفظة نقوده التي تُلازم سيفه في الزنار، ليشتري من صاحب القطيع أجمل خروف لديه. فتفاجأ الأخير، ولكن رضخ أمام مغريات المال وأمام خطر عودة المبارزة غير المُتكافئة، وباع الخروف.
وعندما حصل بانورج على ما يريد، ألقى بالخروف من على ظهر السفينة في وسط البحر، فهاج القطيع كله واندفع غرائزياً، دون بصيرة وتفكير، وراء الخروف الأول إلى بحر الغرق، وأغرق معه صاحب القطيع ورعاته الذين حاولوا إيقاف القطيع من التدحرج نحو الهلاك، دون جدوى.
وتقول الرواية "إن البحر أمسى حينها، بحر خراف تغرَق". ومنذ ذلك الوقت، أمست عبارة "خراف بانورج" الشهيرة ترمُز إلى هؤلاء التُبَّاع الذين يتبعون غرائزياً، ودون مُساءلة، ويذوبون في خضم الحركة الجماعية لقطيع العدد الأكبر دون تحريك لفكرهم النقدي، مهما كانت الضغوطات أو المغريات.
العِبْرَة السياسية لنا هنا أن المُراجعة الفكرية النقدية السريعة تفتح البصيرة الوطنية، في حين يُغلقها وقد يضربها منطق الإبطاء بمعالجة الأمور الشائكة حيناً، أو منطق التسرع في الانزلاق بِسَيْر القطيع، فننزلق بذلك، من الخوف من أخطار، إلى أخطار أكبر، ولا نجابه الصواعق الداخلية والخارجية التي تهدد لبنان واستقراره وديمومته.
فالصواعق الخارجية متنامية اليوم لضرب منطق الدولة الأمة، وجغرافيات سايكس بيكو الدستورية التي تعتمد على منطق دولة "ويستفالي". وهذا لن يتم بالتقسيم في دويلات جديدة، ولكن من خلال سياسات القضم والفرز وتوسيع مناطق النفوذ والمحميات، وبسياسات تضرب النسيج الوطني في لبنان وسوريا والمشرق العربي لتفكيكها وزعزعة استقرارها. فالأخطار التوسعية في المنطقة متحركة وتنبع من جيوسياسيات الأمداد الدينية المِيسيانية الملتزمة (السنية والشيعية واليهودية) التي تتصارع على جغرافيا الشرق التي، لكونها توسعية الطابع، تهدد جغرافية لبنان واستقراره وثرواته. أما الصواعق الداخلية فتأتي من تداعيات تنفيذ هذه السياسات التوسعية في المنطقة، من فكرة إسرائيل الكبرى وسوريا الكبرى، وخطط تحريك الكتل البشرية. فأي ديفرسوار بشري من غزة إلى مصر، ومن الضفة الغربية إلى الأردن، قد يهدد لبنان بنزوح جديد ويهدده مباشرة بتثبيت التوطين الفلسطيني في لبنان.
ويبقى السؤال هنا مفتوحاً دون جواب عن كيفية تسليم السلاح الفلسطيني في لبنان وعن كيفية حل ملف النزوح السوري في لبنان الذي لا يزال قنبلة موقوتة لا يتم التعامل معها كخطر وجودي. الصواعق الأخرى، تتمحور حول ضعف القدرة اللبنانية على القراءة الاستباقية، منظومة الفساد التي تتحكم بالمفاصل كلها، ضعف المناعة الوطنية، وإفراغ الطاقات وهجرة النخب من خلال تفكيك النظام المصرفي ما يضرب الثقة وفرص تعافي الدورة الاقتصادية، وتفكيك النظام الصحي والتربوي والجامعي والثقافي إلخ.
وأنا أكتب هذه الكلمات في نهاية أسبوع حار مناخياً وسياسياً، في غروب الأحد العاشر من آب / أغسطس اللهاب من مربض خيلي الصيفي المشرقي، في بيت مري، على كتف المتوسط، مقابل هذا البحر الكبير الواسِع، بابنا إلى الغرب، حَضَرَت لذهني عِبرة رابليه الشهيرة التي تعود إلى القرن السادس عشر، لأتساءل ما إذا كنا جميعاً في لبنان هذه الأيام، من هُم مع تسليم السلاح ومن هم ضده، في وضعية قطيع الخراف الذي يُهرول دون مراجعة نقدية إلى الهلاك بسبب مكائد تُنصَب له، تؤدي إلى تدافع القطيع السريع نحو الهلاك فلا هو يسلم، ولا حراسه يسلمون.
فمع اتخاذ القرار المُهم في مجلس الوزراء اللبناني بوضع جدولة زمنية لحصر السلاح بيد الدولة كلياً، وتكليف الجيش اللبناني الحبيب بوضع خطة لتنفيذ ذلك، ننتقل حُكماً إلى مرحلة نوعية جديدة، لها ما لها، وعليها ما عليها من أخطار، لأن الانتقال تم بالتسريع دون الوصول إلى خلاصات وطنية وفي ظل خطاب تصادمي ومشحون. فانتقلنا من موقف كانت فيه الأولوية للتفاوض على تزامن الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة مع تنفيذ تدريجي لبنود الـ1701 بما يتعلق بالسلاح، إلى أولوية داخلية أخرى في حين أن الخارج لا يزال يفعل فينا. وانتقلنا من المواجهة الداخلية بين القوى السياسية اللبنانية حول "شرعية" سلاح المقاومة وجدواه، إلى مواجهة بين الثنائي الشيعي والشرعية اللبنانية المتمثلة بمجلس الوزراء.
بالطبع، كل تسخيف أو رفض لقرار مجلس الوزراء مرفوض. كما لا يمكن أن يكون هذا القرار موضع مساءلة أو تسويف أو مناورات سياسية، من معارضيه أو مؤيديه. فلا تستقيم دولة القانون إلا باحترام القرارات الدستورية والقانونية لكي يبقى لبنان في حضن الشرعية الدولية واحترام القانون الدولي، بالرغم من توسع سياسات الكيل بمكيالين والمنحى الطاغي الذي يُعلِّي منطق حق القوة على قوة الحق.
لست هنا في معرض الدفاع، التبرير، أو مُساءلة أي كان، بل الدعوة وتحفيز الجميع إلى طوارئ إنقاذية أمام الأخطار الوجودية التي تهددنا جميعاً. فعلينا أن لا نبطئ بربط الأبعاد الجيوسياسية والوطنية، ووضعها في إطارها التكاملي الدولي والإقليمي دون اجتزاء، فنخرج من تضارب السرديات المُتصارعة، لنقرأ سوية ببصيرة وتمييز وهدوئية استراتيجية، في خريطة الأخطار وطرق مجابهتها. فلا بد من الخروج من العقل الطائفي إلى عقل الدولة والمواطنة، ومن عقل التصادم وخطاب العقول الحامية، إلى عقل الحكمة، والتوافق الجريء، والصريح، والبنَّاء.
هل من ضرورة لحصر السلاح والعودة إلى الانتظام والتناغم مع الشرعية الدولية؟ بالتأكيد نعم. لكن هل أخذنا الطريق الصح للوصول إلى هذه الأهداف الضرورية في ظل تنامي التأرجح بين أرض الرجاء (خطاب القسم)، وأرض الواقع؟ مقاربة الرئيس كانت ضرورية لعدم المس بأسس السلم الأهلي المُعرَّض للعبث به من أطراف عدة لها مصلحة بتفكيك النسيج الوطني اللبناني، بسبب ضعف مناعتنا الوطنية. لكن تسريع الضغط الدولي والإقليمي علينا، كان يحتم علينا استباقياً ديناميكية سرعة أكبر دون تسرع. هل التسريع الحالي، كمحاولة لتفادي تلقي ضربات موجعة قيل إنها آتية إذا لم ندخل سريعاً في خط هذا التسريع، يوصل لبنان إلى بر الأمان؟ هل يفكك الصواعق، أم من شأنه، وفقاً لما نشهده، أن يجعلها أكثر حدة وقابلية للانفجار؟ هل هذا التسريع، بعد الإبطاء الذي سبقه، يهدد الدولة اللبنانية بالانكشاف في حال لم يتم التنفيذ كما قد تعتقد بعض الدول، فيحصل علينا تدويل قسري؟
المساءلة حول حرب الإسناد وتبعاتها، التي أوصلتنا إلى الفخ الذي نحن فيه، هي ضرورة أيضاً لتجسير أي كلام نوعي حول مقاييس وضوابط الأمن القومي اللبناني. لكن هل مفيد أن تتم هذه المساءلة اليوم بالتجاذب الإعلامي، تحت الضغط، وفي أجواء الشيطنة الحامية والتخوين المتبادل، ونحن لا زلنا في عين العاصفة؟ كان يجب أن تتم هذه المراجعة النقدية مُباشرة بهدوء ومسؤولية دون تأخير بعد توقيع اتفاقية وقف الأعمال الحربية ومباشرة بعد بداية العهد الواعد. وكان على الحزب المبادرة بالقيام بها، بالأخص عندما يكون هناك قراءات تقول انه أول المتفاجئين بشرارة 7 تشرين الأول/ أكتوبر التي أجبرته على فتح النار في توقيت ليس بتوقيته واستراتيجية مجابهة ليست استراتيجيته، ولا تتناسب مع المصلحة اللبنانية. لو حصلت هذه المراجعة، لكانت مفصلية للحزب، لكونه دفع غالياً الأثمان، شهداء وتهجير أحبتنا من الجنوب الحبيب، وللبنان لجهة تظهير خلاصات يمكن التجسير عليها وطنياً.
قد يكون الحزب قد دفع غالياً تداعيات سياسة فُرضت عليه وجعلته مُكبَّلا وفي وضعية التلقي دون السماح له بالمبادرة والمفاجأة النوعية التي كان يمكن ان تغيِّر نوعية الاشتباك بينه وبين إسرائيل. فهل فهم الحزب حينها، أن نظرية "الحرب الشاملة" التي أطلقها نتنياهو في غزة وفي لبنان، غيرت كل معادلات قواعد الاشتباك بحيث أمسى كل شيء مباح وبدون ضوابط وبدون أية خطوط حمر؟ وهذا ما حصل، فانتزعت إسرائيل من الحزب عنصر المفاجأة النوعية، واستفادت من وضعية التلقي التي وُضِعَ الحزب فيها في حرب الإسناد وعدم السماح له بالقيام بمفاجآت نوعية. فراكمت عليه عناصر المفاجأة والضربات النوعية التي افقدته قيادته العليا وقدرته الردعية. قد يكون الحزب قد أقام اليوم هذه المراجعة النقدية الذاتية، لكنه لم يصرح بعد إلى اليوم لبيئته ولبقية المكونات اللبنانية، بالخلاصات والدروس التي استخلصها من الفخ الاستراتيجي الذي قد يكون وقع فيه، وكانت تداعياته كبيرة على لبنان. هذه المصارحة ضرورية اليوم لصحة الشراكة الوطنية. لكن بالمقابل، وبدل مراهنة البعض على فصل الحزب عن البيئة الحاضنة والحالة الشيعية ككل، ما ينطوي على أخطار تجعل الطائفة الشيعية الكريمة تشعر انها معزولة ومستهدفة، أليس من الأفضل الدفع بالحزب من خلال خطاب استيعابي يتفهم الوضعية الحالية النفسية والوجودية لأخوتنا الشيعة كمكون تاريخي وشريك أساسي في لبنان، لحثه على ضرورة مصارحة المكونات اللبنانية الأخرى بهذه الخلاصات فيتم التجسير المشترك نحو الأمن القومي اللبناني؟ بدل أن تتم شيطنة الحزب والبيئة التي وراءه، وهي بيئة لمكون لبناني أساسي، ودفعه الى خطاب راديكالي أكبر لا يفيده ولا يفيد سيادة لبنان؟ لو أقمنا هذه المراجعة النقدية، الم نكن اليوم في وضعية أفضل، تجاه بعضنا البعض، وتجاه المجتمع الدولي، وكانت حدية الخطاب بين المكونات اللبنانية أقل حدة وأكثر تضامناً؟ هل فات الأوان؟ لا أعتقد.
كل هذه التساؤلات ضرورية ومفيدة لتحصين القرار الوطني والدستوري، إذا قاربناها بموضوعية وروح وطنية بنَّاءة، لا من خلال منطق الجدل العقيم والتخوين المتبادل. فالقضية ليست فقط قضية جرأة لأخذ القرار في مجلس الوزراء، وهو قرار لا بد منه. والقضية ليست فقط قضية مضمون، بل هي أيضاً قضية "شكل" مفصلي لطريقة تنفيذ هذا المضمون بطريقة لا يتم من خلالها تفجير عناصر الجمع الوطني، وكم هي ضرورية اليوم وكم هو المطلوب تفجيرها، وبطريقة تمنع المُراكمة السلبية بين المكونات اللبنانية. ففي حين المطلوب الخروج من السياسات المتناقضة والخطاب السياسي المشحون، لا زلنا في منطق الكسر لبعضنا البعض وفي منطق المراهنة على المتغيرات لنكسب على بعضنا البعض. فمنهم من يريد أن يُبطئ الحركة لكسب الوقت وتمريره، مُراهناً على متغيرات إقليمية ودولية قد تعيد الطابة إلى ملعبه. وهناك من يريد، على العكس، تسريع الوقت لضرب الحديد وهو حامي، لمنع أية إمكانية بالعودة بعقارب الساعة الى الوراء، حتى ولو كان ذلك بمنطق الكَسْر، أي كسر الفريق الاخر. التأرجح بين هذا الإبطاء وهذا التسريع، هو الخطر الوطني بعينه.
في الوقت الذي نرى فيه نسيجنا الوطني اللبناني بحالة تفككية ومهدد بأخطار وجودية، نرى كيف تستمر كل من هاتين السياستين اللبنانيتين بفَصْم البلد والسلطة، وبتنمية خطاب التناقضات في ما بينها ما يُعرِّض الوطن لأخطار انكشاف كبيرة. فنحنُ لا نزال في استراتيجية التَلقِّي كأطراف لبنانية متنازعة ومتصارعة ومتصادمة، وليس في استراتيجية المُبادرة الوطنية المستندة على رؤية أمن قومي مشتركة مدعمة بلحمة وطنية متجددة، بالرغم من توافر شروط الرجاء من جديد مع انتخاب رئيس للجمهورية، لديه قوة، وقدرة، وشخصية، مِقدام، مِغوار، أطلق صرخة، وخطاب قسم واعد وهو سقفنا اليوم وغداً، لا تزال ارتداداته إلى اليوم ويجب على الجميع الانضواء تحت سقفه، وبدء الانتظام الحكومي مع تشكيل الحكومة. لكن هذا كله ليس بكافٍ لمنع الأخطار الوجودية الداهمة علينا وللعبور بلبنان في الممر الضيق إلى شاطئ الأمن والأمان. فالمطلوب هندسة طوارئ لسحب الصواعق الداخلية والخارجية، ولإعادة جمع البلد وإعادة المناعة الوطنية إليه وتثبيت عناصر السلم الأهلي فيه، وإلا نكون نفعل مصالح السياسات الخارجية التي تُريد تفكيك لبنان. هل يتم ذلك بسياسات التسريع التي تقترب من عبرة رابليه؟ وحدها المناعة الوطنية وتحصينها هي ركيزة الامن القومي اللبناني اليوم وغداً، لا الضمانات الخارجية، ولا السلاح، ولا الحمايات، ولا أية عناصر أخرى، التي هي إن وُجِدَت، تكون مُكمِّلة، وليس مُكَوِّنة للمناعة الوطنية.