آراء 12-08-2025 | 00:07

من البيت الأبيض إلى القوقاز ... طريق واحد وألف حساب

ما جرى في البيت الأبيض قد يُسجَّل في كتب التاريخ على أنه لحظة ميلاد مشروع يربط القارات ويعيد رسم خطوط التبادل التجاري، أو على أنه بداية فصل جديد من النزاعات المغلفة بشعارات السلام.
من البيت الأبيض إلى القوقاز ... طريق واحد وألف حساب
السياسة لا تعترف بالفرص المجانية. (أ ف ب)
Smaller Bigger

كأن عقارب الساعة توقفت للحظة في قاعة البيت الأبيض، حيث اجتمع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالرئيس الأذربيجاني إلهام علييف ورئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان حول طاولة واحدة. تبادل الحضور عبارات المجاملة، ثم انفرجت أسارير ترامب وهو يعلن التوصل إلى اتفاق وُصف بالتاريخي لفتح ممر زنغزور، الذي أطلق عليه بنفسه اسم "ممر ترامب للسلام والازدهار". خلف التصفيق والابتسامات، كان واضحاً أن ما جرى أبعد من مجرد تدشين طريق يربط مدناً وحدوداً، بل لحظة مفصلية تحمل في طياتها إمكان إعادة رسم خرائط النفوذ في منطقة لطالما كانت على حافة الانفجار.

بالنسبة لكثيرين، قد يبدو الممر خطاً على الخريطة يربط أذربيجان بإقليم نخجوان عبر الأراضي الأرمينية، لكنه في حسابات الجغرافيا السياسية أكثر بكثير من ذلك. إنه شريان محتمل يربط آسيا بأوروبا دون المرور عبر روسيا، ويفتح أمام تركيا منفذاً مباشراً إلى أذربيجان ومنها إلى آسيا الوسطى. وفي المقابل، يختصر على باكو سنوات من الاعتماد على طرق بديلة تمر عبر إيران أو الممرات البحرية، ما يمنحها قدرة أكبر على التحكم في تدفقات التجارة والطاقة.

تركيا، التي دعمت أذربيجان سياسياً وعسكرياً في حرب كارباخ الثانية 2020، ترى في الممر فرصة استراتيجية نادرة. هو ليس مجرد طريق لشاحنات أو أنابيب، بل حلقة في مشروع أوسع لربط ما يسمى "العالم التركي" من الأناضول إلى قلب آسيا. فتح الممر سيقلص زمن وكلفة نقل البضائع، ويفتح الباب أمام استثمارات ضخمة في البنية التحتية، ويمنح أنقرة نفوذاً مضاعفاً في أسواق الطاقة الإقليمية، حيث يمكنها أن تصبح معبراً رئيسياً للنفط والغاز القادم من بحر قزوين. وفي خلفية هذه الحسابات الاقتصادية، هناك أيضاً البعد الرمزي؛ فتركيا ستصبح صاحبة اليد العليا في مشروع إقليمي عابر للحدود يغير خرائط النفوذ في القوقاز.

لكن المشهد ليس وردياً للجميع. إيران ترى في المشروع تهديداً مباشراً لمكانتها كحلقة وصل بين أرمينيا وبقية العالم، وتخشى أن يتسبب في إضعاف دورها التجاري والسياسي شمال حدودها. لديها بعض أوراق الضغط، من بينها نفوذها في مناطق شمال أرمينيا، وقدرتها على استخدام أدواتها الاقتصادية والأمنية لعرقلة أو تعديل مسار المشروع. غير أن طهران تعاني عزلة دولية تجعل من الصعب عليها فرض رؤيتها إذا ما توافقت أنقرة وباكو وواشنطن ويريفان على المضي قدماً.

أما روسيا، فرغم احتفاظها بقوات حفظ سلام في الإقليم، فإن قدرتها على تعطيل الممر باتت أقل مما كانت عليه في الماضي. الحرب في أوكرانيا استنزفت مواردها وأضعفت حضورها الديبلوماسي، لكن موسكو ما زالت قادرة على التأثير في إيقاع الأحداث، سواء عبر الضغط على يريفان أو من خلال التحكم في الترتيبات الأمنية على الأرض. وربما تراهن على إبطاء التنفيذ أو فرض ترتيبات تضمن لها البقاء لاعباً لا يمكن تجاوزه.

أرمينيا نفسها تدخل هذه المعادلة وهي منقسمة بين طموحات السلام ومخاوف فقدان السيادة. باشينيان، الذي يواجه انتقادات داخلية حادة، يحاول تصوير الممر كفرصة اقتصادية وتاريخية لإنهاء عقود من العزلة والنزاع، لكن كثيراً من الأرمن يرون في المشروع تنازلاً مؤلماً لخصوم الأمس. احتمال اندلاع احتجاجات واسعة ليس بعيداً، خصوصاً إذا ارتبط الممر بإشراف خارجي يثير حساسيات قومية عميقة.

الولايات المتحدة، من جهتها، حققت عبر الاتفاق موطئ قدم سياسياً واقتصادياً في قلب القوقاز، في لحظة تسعى فيها واشنطن لتقليص النفوذ الروسي والإيراني في المنطقة. وجود اسم ترامب على المشروع يضفي عليه بعداً شخصياً في السياسة الأميركية، لكنه في النهاية يمثل أيضاً جزءاً من استراتيجية أوسع لإعادة تشكيل طرق التجارة والطاقة العالمية بما يتوافق مع المصالح الغربية.

المفارقة أن الممر يحمل في طياته وعوداً بالازدهار وخطراً بالانفجار في آن واحد. فإذا تم تنفيذه بشفافية وبضمانات واضحة تحترم سيادة الدول المعنية وتراعي مصالح الجيران، فقد يتحول إلى جسر للتعاون والاستثمار. أما إذا استُخدم كأداة نفوذ من طرف واحد أو منصة لتصفية الحسابات، فإنه قد يطلق سباق هيمنة جديداً بين تركيا وإيران وروسيا والغرب، مع كل ما يعنيه ذلك من احتمالات التوتر وعدم الاستقرار.

يبقى القول، إن ما جرى في البيت الأبيض قد يُسجَّل في كتب التاريخ على أنه لحظة ميلاد مشروع يربط القارات ويعيد رسم خطوط التبادل التجاري، أو على أنه بداية فصل جديد من النزاعات المغلفة بشعارات السلام. ما بين الأمل والخشية، يقف ممر زنغزور، أو ممر ترامب، كمجاز حيّ عن الجغرافيا التي لا تعرف الفراغ، والسياسة التي لا تعترف بالفرص المجانية.

 

*باحث ومستشار سياسي

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

العالم العربي 9/29/2025 5:14:00 PM
"نحن أمام مشروع ضخم بحجم الطموح وبحجم الإيمان بالطاقات"
تحقيقات 9/30/2025 4:06:00 PM
تقول سيدة فلسطينية في شهادتها: "كان عليّ مجاراته لأنني كنت خائفة"... قبل أن يُجبرها على ممارسة الجنس!
ثقافة 9/28/2025 10:01:00 PM
"كانت امرأة مذهلة وصديقة نادرة وذات أهمّية كبيرة في حياتي"
اقتصاد وأعمال 9/30/2025 9:12:00 AM
كيف أصبحت أسعار المحروقات في لبنان اليوم؟