الحِواريُّ الصّامت

آراء 25-06-2025 | 18:49

الحِواريُّ الصّامت

​لم يكن "المونسنيور" يوسف مرهج رجُلَ المنابر العالية، بل رجل الممرّات الهادئة. رجُلٌ آمن بأنّ الكلمة إذا لم تُولَد من صمتٍ عميق، صارت ضجيجاً، وبأنَّ المحبّة لا تُذاع، بل تُعاش؛ وهكذا عاش.
الحِواريُّ الصّامت
Smaller Bigger

الوزير القاضي عبّاس الحلبي

 

في صخب الزّمن الرّديء، رحلَ بصمتٍ ذاكَ الذي كان يُجيدُ الصّمت النّاطق ويُتقِنُ الحوار من دونِ استعراض. رحلَ الخور-أسقف يوسف مرهج، رَجلُ الكنيسةِ والعقل، وابنُ مجدل المعوش الشوفيّة التي ما زالت تهمس بحكمتِهِ في صنوبرها، وتُردِّدُ صلواته في حجارةِ كنائسها القديمة. رحلَ مَنْ حمل في قلبه "لبنان التعدديّ"، ومَن أدركَ أنَّ التفاهم الحقيقيّ لا يُبنَى بالتصريحات ولا باللاهوت أو علم الكلام، بل بحوار الحياة، من عيشٍ مشترك، ولقاءاتٍ متبادلة وثقةٍ بنّاءة.

 

​عرفته منذُ سنواتٍ طوال، وعرفتُ فيه تلك الروح الحواريّة القادرة أَنْ تُرَمِّمَ جسور الثّقة بصمتٍ، وأَن تزرعَ بذورَ المصالحة الحقيقيّة؛ فقناعته راسخة بأن لا وطن بلا وحدة، ولا وحدة بلا حوار.

 

​لم يكن رحماتُ الله عليه، رجُلَ المنابر العالية، بل رجل الممرّات الهادئة. رجُلٌ آمن بأنّ الكلمة إذا لم تُولَد من صمتٍ عميق، صارت ضجيجاً، وبأنَّ المحبّة لا تُذاع، بل تُعاش؛ وهكذا عاش.

 

​في المطرانيّة، كان نائباً للمطران، لكنّه لم يكن ظلاًّ لأحد، بل نوراً هادئاً يملأُ المكان. وفي الجبَل، حيث تتقاطع الذاكرة بالحقيقة، كان ابن مصالحةٍ لا تنضب، وقد مشى بين المسيحيين والموحّدين الدروز لا بصفة كاهنٍ، بل كجسرٍ حيٍّ بين إخوةٍ تقاتلوا يوماً، ثم اختاروا المصالحة والغفران. وفي الجامعة كان أباً يحمل أحلام الأجيال، فجعل من صروحها ورشة بناءٍ للعقل والوجدان، ومنبراً للتلاقي، وحاضنةً لحوارٍ صامت بين الأديان والثقافات.

 

​يوسف مرهج لم يرحل فعلاً. هو فقط انسحب بلطافة، تاركاً لنا ما هو أكثر من السيرة. ترك لنا مثالاً عن وجهٍ إنسانيٍّ صادق، وعن قامةٍ فكريّةٍ وحواريّةٍ راقية همّها الجبل والمصالحة فيه، وترك لنا ذكرياتٍ كثيرة عن رجُلٍ طيِّب، وصديقٍ مُخلِص وفيّ، وحواريٍّ صامت لم يحتج يوماً أن يَصرخ ليُسمَع، بل كان حضوره صلاةً تمشي على الأرض.
رحلَ في ليالي الشرق الحزينة ليرقد في أفياءِ قريّةٍ سطّرت بتاريخِ كنائسها وأديارها، تاريخَ العلاقات الوطيدة بين الموارنة والدروز منذُ البطريركَين يوحنّا مخلوف (1608-1633) واسطفان الدّويهي (1670-1704).

 

رحلَ "المونسنيور" كما كنا نناديه، وفي قلبه غصّة على مصالحةٍ لم تكتمل، وعلى جَبَلٍ ما زالَ ينتظرُ المبادرات الإنمائيّة لعودةٍ شاملة.

 

رحلَ، نعم. لكنه لن يُنسى!
 

العلامات الدالة

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 10/11/2025 1:00:00 AM
كان يسافر على متن طائرة بوينغ خاصة قيمتها 60 مليون دولار...
المشرق-العربي 10/11/2025 1:12:00 PM
على الرغم من السرّية الشديدة التي تُحيط بمخبأ الأسد الخفي، تمكّن فريق الصحيفة الألمانية من دخول المبنى نفسه والتقوا هناك بوكيلة عقارات محلية عرّفت عن نفسها باسم مستعار هو ناتاشا.
كتاب النهار 10/11/2025 9:39:00 AM
لا إعمار قبل تسليم السلاح، حتى لو عطل بري إقرار موازنة ٢٠٢٦
لبنان 10/11/2025 6:42:00 AM
الغارات أدّت إلى سقوط ضحايا وجرحى بحسب المعلومات الأولية