الانتحال العلمي في زمن الذكاء الاصطناعي: آلات تكتب وخوارزميات توقّع

د. ماجد جابر*
في ندوة حضرتها أخيراً، تقدّم نحوي أحد المشاركين يحمل كتاباً أنيقاً وقال بثقة: "يسعدني أن أقدّم لك إصداري الجديد". شكرته وتصفّحت الكتاب الذي حمل اسمه على الغلاف، فوجدت فصولاً مرتبة ومراجع وتحليلات تحاكي نقاشات فلسفية. لكنّ المفارقة أنني أعلم يقيناً أن صاحب الكتاب لا يمتلك أي خلفية أكاديمية في مجال الكتاب. رغم ذلك، كان يوقّع الإهداءات، يلتقط الصور، ويستعرض "منجزه العلمي" كأنه ثمرة تجربة حقيقية. والحقيقة؟ أن الكتاب كُتب عبر الذكاء الاصطناعي، بأوامر نصية جاهزة، ونُشر دون أي جهد معرفي. هذه ليست حالة فردية، بل مظهر من ظاهرة تتسع: بات تأليف الكتب لا يتطلب سوى تطبيق ذكي، قليل من التنسيق، وبعض الترويج على وسائل التواصل.
لم يكن العلم يوماً سلعةً تُباع وتُغلّف باسم من لم يكتبها. لكننا نعيش زمناً تُنتج فيه الأبحاث والمقالات والكتب بأدوات لا تشكّ ولا تُحاسب، حيث ازدهر "الانتحال المؤتمت". المشكلة ليست في الأداة، بل فيمن يُلبسها عباءة النبوغ الزائف، ويقدّم نفسه "مفكراً، باحثاً، مؤلفاً"، لمجرد إتقانه أمراً نصياً واستنتاجه مخرجات مزخرفة بالعناوين والهوامش، دون جهد حقيقي. لقد أصبحنا أمام جيل من "الخبراء الاصطناعيين"، يوقّعون نصوصاً لم يكتبوها، ويقدّمون أطروحات لم يعيشوا همّها، وينشرون مقالات لا تحمل من العلم سوى العنوان. تحوّل بعض الكتّاب إلى واجهات معرفية، أقرب إلى ممثلين في مشهد ثقافي مقلوب، كما وصفه Guy Debord حيث تتفوّق الصورة على الجوهر، ويصبح الزيف لحظة من لحظات الحقيقة.
ففي زمنٍ كانت فيه المعرفة ثمرة جهد وتأمل، والبحث مساراً طويلاً نحو الفهم، غيّرت أدوات الذكاء الاصطناعي، وعلى رأسها ChatGPT ، طبيعة إنتاج النصوص العلمية. بات توليد دراسات كاملة لا يتطلب أكثر من نقرات، تستوفي الشكل دون محتوى. فقد أظهر تقرير لـScientific American عام 2023 استخدام باحثين لهذه الأدوات دون إفصاح، ما دفع مجلات علمية كبرى لتعديل سياساتها. أما في العالم العربي، فالأبحاث أصبحت سلعة تجارية تُنجز سريعاً في سوقٍ يكافئ الزيف. هكذا يُستبدل العمق بالكم، ويُختزل الباحث إلى مستخدم أدوات، لا منتِج فكر. ولم يعد مفاجئاً صدور كتب بأسماء "باحثين" لا يُعرف لهم أي إنتاج علمي. عنوان لامع، اسم مرفق بـ"د." أو "بروفيسور"، وغلاف أنيق، لكن خلفه نص محرّر بالكامل بأدوات الذكاء الاصطناعي. دخلنا عصر "الكتب الاصطناعية"، حيث تُنتج أعمال كاملة بأوامر نصية عبر أدوات كـChatGPT، تُصاغ بلغة منمّقة، وتُعرض كمؤلفات أضيفت إلى المكتبة الوطنية أو العربية.
خطورة الظاهرة لا تكمن فقط في خداع القارئ، بل في تزوير مكانة الكاتب، وتفريغ الكتاب من قيمته المعرفية، وتحويله إلى وثيقة زائفة تُضلل الساحة الأكاديمية. لا يكتفي المنتحل بالنشر، بل يتحوّل إلى نجم على وسائل التواصل، يروّج "منجزه" ويوزّع الإهداءات، موهماً الجميع أن كتاب "الخوارزمية" ثمرة تجربة شخصية. والمثير للسخرية أن كثيراً من هذه الكتب تتناول موضوعات لا صلة علمية لأصحابها بها؛ كمدرب تنمية بشرية يكتب عن "الثورة الكمومية للذكاء الاصطناعي"، أو أستاذ لغة يؤلف عن "إعادة تشكيل الإدراك بالخوارزميات". يمارسون دور المفكر دون خلفية علمية، محوّلين الكتابة إلى استعراض كما وصفها Mario Vargas Llosa "طقوس بلا فكر، وتسويق بلا عمق".
الظاهرة لا تقتصر على إنتاج الأبحاث والكتب، بل تظهر بوضوح في المقالات، حيث ينشر بعض الأشخاص يومياً تحليلات معقّدة في مجلات ومواقع إلكترونية، يفترض أنها تحتاج إلى وقت طويل من القراءة والتفكير والتراكم. المفارقة أن ظروفهم اليومية بالكاد تتيح لهم كتابة منشور على وسائل التواصل، فكيف بمقالات رصينة وعميقة؟ الأسوأ أن المنتحلين يتباهون بانتشارها ويتسلّقون بها نحو ألقاب أكاديمية، وهم يعلمون أن ما نُشر لم يصدر عن فكر، بل عن خوارزمية تُتقن التركيب لا التساؤل.
ما الذي يدفع الإنسان لتزييف المعرفة؟ الانتحال العلمي عبر أدوات الذكاء الاصطناعي لا يُختزل في كسل أو انتهازية، بل يعكس أزمة أعمق في علاقتنا بالعلم وبالذات وبالمعرفة. لفهم دوافع هذا السلوك، يجب تأمل البُنى النفسية والاجتماعية والفكرية التي تجعله ممكناً. نفسياً، يُغذّي وهم الإنجاز السريع والخوف من الفشل حاجة الفرد إلى الظهور كما يتمنى، لا كما هو، كما أشار Carl Rogers في حديثه عن "الذات المثالية". في بيئات مشبعة بثقافة النجاح الفوري، يصبح الذكاء الاصطناعي طريقاً مختصراً لتقمّص دور الباحث، دون المرور بمخاض التكوين القائم على الشك والتجربة. وهنا يتقاطع مع ما وصفه Erich Fromm بـ"الامتلاك بدل الكينونة"، إذ يُفضّل البعض امتلاك صفة "كاتب" أو " باحث" أو "مفكّر" دون أن يكون كذلك فعلاً، والذكاء الاصطناعي يمنحهم هذا المظهر: مقالة منشورة، كتاب مطبوع، صورة لافتة، دون عناء الفكر. اجتماعياً، في مجتمعات ضعفت فيها معايير التقييم، تحوّلت المعرفة إلى رأسمال رمزي يُستثمر للحصول على مكانة أو فرصة، لا لفهم العالم. كما يرى Pierre Bourdieu، فإن الكتب والمقالات والألقاب تُستخدم لتكريس الهيمنة، لا لتوسيع الأفق.
وهكذا، تصبح الكتابة وسيلة للترقي، لا تعبيراً عن ذات تبحث، بل أداة في سوق الرموز. فلسفياً، يشير Jean Baudrillard إلى أننا نعيش عصر "التمثيل"، حيث تتفوّق النسخة على الأصل، ويكفي أن تبدو كمن يفكّر حتى تُمنح صفة المفكر. تربوياً، اختزلت أنظمة التعليم البحث إلى مخرجات قابلة للقياس تحت ضغط "النشر"، فبات الطالب والأستاذ يبحثان عن إنتاج سهل وسريع، لا عن رحلة فكرية. وهكذا، أُفرغت الكتابة من بعدها التكويني، وأُوكلت للآلة مهمة توليد ما يجب أن يكون نابعاً من الذات.
إذا كان الانتحال العلمي مقلقاً، فإن تداعياته تتجاوز الفعل الفردي لتطال عمق المنظومة المعرفية. فالمشكلة ليست في استخدام الذكاء الاصطناعي لتوليد نصوص، بل في ما يسببه من تشويه للمعايير، وتزوير للمكانة، وتآكل للثقة بالعلم والجامعة والفكر. إنها عدوى صامتة تقوّض المعرفة، وتحوّل الباحث من فاعل نقدي إلى مؤدٍّ لطقس إنتاجي بلا معنى.
علمياً، ينسف الانتحال المؤتمت أساس العمل الأكاديمي: الأصالة. فعندما تتحوّل الأبحاث والمقالات إلى منتجات رقمية مزيّنة لغوياً، بلا سؤال أو موقف، تفقد المعرفة تراكميتها. تُبنى دراسات على مواد ملفقة، وتُكافأ الكثرة على حساب العمق، وتضعف ثقة المجتمع العلمي بالمجلات والمؤتمرات. يتحوّل الكمّ إلى بديل عن القيمة، وتُمحى الحدود بين من يفكر ومن ينسخ. أمّا اجتماعياً، يفرز هذا الواقع "نخبة الزيف": أشخاص بألقاب ومؤلفات دون عمق. تُروّج نصوصهم في الإعلام، ويُستضافون كخبراء، بينما تُهمّش الكفاءات في بيئة تكافئ المظهر على الجوهر. ينشأ جيل يرى المعرفة مظهراً لا قناعة، ويُنتج رأياً هشاً يتكوّن من نصوص مصمّمة، تعبّر عن إجادة استخدام لا عن صدق موقف، كما قال Alain Deneault، "صعود التافهين لا يحصل عَرَضاً، بل ضمن منظومة تحميهم وتكافئ إنتاجهم الاستعراضي"، فيصبح الكتاب المؤتمت خطوة في سلّم الترقي الرمزي. أمّا تربوياً، فتتلقى الجامعة الضربة الأقسى. حين تُقبل أبحاث مولّدة دون مراجعة، تفقد الشهادة معناها، ويتحوّل الأستاذ إلى مراقب، والطالب إلى مستهلك. تنهار العلاقة التربوية، وتفقد الجامعة وظيفتها التكوينية، وتظهر فجوة بين القيم المعلنة والممارسة الفعلية. نفسياً، يعيش المنتحل وهم الإنجاز دون ألم، ما يؤدي إلى شعور بالتزييف وفقدان الصلة بالذات. ويُصاب الباحثون بالإحباط حين يُكافأ الزيف ويُهمّش الاجتهاد، فتنمو عقلية الغش "المقونن"، ويُقاس النجاح بما يُنشر لا بما يُفكَّر فيه.
أخلاقياً وفلسفياً، نحن أمام انهيار المسؤولية المعرفية. لم يعد النص يُنسب لصاحبه، بل يُوقَّع حسب الطلب. تذوب الحدود بين المؤلف والقارئ، والفكرة والواجهة، وتُختزل الحقيقة إلى ما يُراد لها أن تبدو عليه. يغيب الضمير، وتُفرّغ المعرفة من إنسانيتها، وتُستخدم وسيلة للترقي لا فعلًا للتحرر. نعيش ما وصفه Chris Hedges بانقسام بين من يفكرون، ومن يستهلكون الوهم كمعرفة.
لا يكفي التحذير الأخلاقي أو الحلول التقنية لمواجهة الانتحال العلمي في عصر الذكاء الاصطناعي، فالمشكلة في انهيار قيمي ومعرفي حوّل الأداة إلى غطاء للزيف. نحن أمام أزمة تطال معنى العقل والكتابة ودور الجامعة، تستدعي معالجة جذرية تبدأ بالسياسات ولا تنتهي عند الفلسفة. في الجامعات، يجب فرض الإفصاح عن استخدام الذكاء الاصطناعي، وتفعيل أدوات كشف النصوص المؤتمتة، واعتماد تقييمات شفوية تكشف وعي الباحث لا مجرد إتقان الصياغة. ولمواجهة الكتب المنتحلة، ينبغي إخضاع المؤلفات لمراجعة صارمة، وإلزام المؤلفين بإقرار بعدم استخدام الذكاء الاصطناعي دون تصريح، مع رقابة في المعارض ودور النشر، ومنع اعتماد الكتب المشكوك بمصداقيتها كمراجع علمية. أمّا المواجهة التربوية فتبدأ من المدرسة، بزرع التفكير النقدي، وتعزيز الشك والتأمل، وتدريب الطلاب على إنتاج أفكارهم لا استنساخها. فالمعرفة تُعاش لا تُستهلك، والخطر في أن يتحوّل الذكاء الاصطناعي إلى بديل دائم عن التفكير، فيفقد التلميذ ثقته بقدرته على الإبداع. في الإعلام، المطلوب فضح الزيف لا تلميعه، عبر التحقق من مصادر النصوص، ومحاسبة الانتحال بمعايير مهنية، مع تكريس وعي يكرّم الكتابة الأصيلة كمقاومة ضد تسليع المعرفة.
نحن لا نعيش فقط زمن الانتحال، بل زمناً أُعيد فيه تعريف المعرفة كشيء يُنتَج لا يُفكَّر فيه، وزمناً تُصاغ فيه المقالات والكتب كما تُصنع العلب: بسرعة، بتقنية، دون روح. لم يعد الانتحال جريمة فردية، بل عرضاً لأزمة حضارية أعمق: أزمة معنى وهوية ومسؤولية. الخطر لا في الخداع، بل في تعوّد المجتمع على الزيف، وتطبيعه، وتوقفه عن السؤال. أن تصبح المقالة توليفة، والكتاب صورة، والبحث مونتاجاً، والكاتب أداة عرض. أن يصير التوقيع عملاً ميكانيكياً، لا فعل التزام. ولعل وصف السهروردي في تجلّياته الصوفية «الورد والدم» يختصر المأساة المعرفية حين قال: «هذا هو الزمن الذي يتغلّب فيه العطش على الماء، ويدّعي الرمل أنه الحقل، كما يدّعي الليل أنه النهار. ولهذا، تعجز اللغة عن أن تغلب الكلام، أو الثرثرة الجوفاء التي أحالت الحياة إلى جيفة باردة». إنه الزمن الذي تُقلب فيه الصور على المعاني، ويُستبدل الأصل بالظل، وتُمنح السلطة لمن يلبس القناع لا لمن يملك الفكرة.
أمام هذا المشهد، لا نملك رفاهية الصمت. فالمعرفة التي لا تدافع عن أخلاقياتها تفقد جوهرها، وتتحوّل إلى مشهدية خادعة لا تبني فكراً ولا تصنع وعياً. ولهذا، نتساءل: من سيكتب المستقبل؟ الإنسان أم الخوارزمية؟ وإذا كتبه الذكاء الاصطناعي، فبأي ضمير؟ وباسم من؟
*باحث تربوي