السؤال المؤلم الذي يتردد "التغييريون" في طرحه

السؤال المؤلم الذي يتردد "التغييريون" في طرحه
إعلان لائحة بيروت مدينتي (حسام شبارو).
Smaller Bigger
أما وقد هدأت بعض الشيء الانفعالات بعد الانتخابات البلدية، وتوقَفَ "التغييريون" عن جلد أنفسهم إن لم يجدوا من يمكن جلده من زملائهم، دعونا ننظر إلى المشهد العام، غير المقتصر على اللحظة الراهنة، ونطرح الأسئلة التي يُفترض طرحها عندما تكون أزمة "التغيير" بهذا الحجم.

هي مجموعة أسئلة تمهد لسؤال صعب، محرج ومؤلم.

الفئة الأولى من هذه الأسئلة:

لماذا لا يوجد في لبنان حزب فاعل عابر للطوائف؟ ولماذا، عندما وُجد مثل هذا الحزب (الشيوعي والقومي مثلاً)، كانت مرجعيّته الفكريّة تتخطى لبنان وتنظيمه جزءاً من تنظيم أوسع، إقليمي أو دولي؟

لماذا لم تتوحّد مجموعات الانتفاضة وتتفق على قيادة وبرنامج مشترك؟

لماذا لم يتمكّن نواب "التغيير" من تشكيل كتلة نيابية موحّدة والاتفاق على برنامج واحد؟ ولماذا كانوا على هامش الاصطفافات السياسية الرئيسية؟

لماذا عندما أنشأت مجموعة تغييرية، مثل "مواطنون ومواطنات في دولة"، ما يشبه الحزب العابر للطوائف والمناطق، لم تتمكّن من الإتيان بأي نائب في الانتخابات النيابية، وحققت نتيجة مخزية في انتخابات بيروت البلدية الأخيرة؟

لماذا تراجعت مجموعة "بيروت مدينتي" تراجعاً دراماتيكياً في انتخابات بلدية بيروت، ولم تتمكن من تطوير نفسها بين ٢٠١٦ و٢٠٢٥؟

الأجوبة التي يتبادلها "التغييريون" تتراوح ما بين غياب الحسّ الجماعي أو القيادة أو التنسيق أو التنظيم أو البرنامج أو الاستقطاب الشعبي أو التحالفات، إلخ... وبدل أن يسألوا لماذا يغيب كلّ ذلك، يتبادلون التهم، وينتقلون مباشرة إلى "الوعظ السياسي": "يجب" شحذ الهمم والتخلي عن الأنانيات وتوحيد القيادة والبرامج وتقوية التنسيق والتنظيم ونسج التحالفات والاقتراب أكثر من الناس ومن المزاج الشعبي، إلخ.... 

يقابل هذه الفئة الأولى من الأسئلة فئة ثانية، تمهد هي أيضاً للسؤال الصعب، المحرج والمؤلم، ولو عن طريق رصد ظاهرات مناقضة:

لماذا نجحت نسبياً بعض التجمعات المناطقية للانتفاضة في تكوين تنظيمات ثابتة مع قيادات موحّدة وبرامج؟

لماذا تنظمت المعارضات الشيعية للثنائي في تجمعات شيعية متعدّدة لكن يوجد بينها حدّ أدنى من التوافق، حتى ولو لم تستطع خوض المنافسة الانتخابية النيابية والبلدية بمعناها الفعلي؟

لماذا شهدت الطوائف الأخرى، وبنسب متفاوتة، تنافساً سياسياً فعلياً داخلها؟

هذه الظاهرات لم تستدعِ من قبل "التغييريين" التساؤل حول ما يفسّرها، بقدر ما استدعت الاستهجان على أساس أنها معارضات ذات طابع مذهبيّ لا وطني. هنا أيضاً طغى الوعظ السياسي على التحليل الموضوعي.

عجز ديناميات التغيير على المستوى الوطني العام، ونجاحها النسبي على المستوى الداخلي في الطوائف والمذاهب، يطرح السؤال الصعب، المحرج والمؤلم أمام "قوى التغيير": لماذا تتمظهر ديناميات التغيير عبر مسالك لامركزية وليس عبر مسارات مركزية؟ 

تتصدّر الإجابات ثلاثة تفسيرات بنيوية متكاملة.

أولاً، طبيعة البنية المجتمعية، "العائلية- المذهبية- الطائفية"، التي تتحكّم بشكل التجمعات السياسية، في ظلّ ضعف البنى "الاقتصادية-الطبقية-السياسية"، العابرة للمذاهب والطوائف. وهذا ما يُترجم أيضاً على مستوى التحالفات المستندة إلى المصالح، التي تعجز القوى العابرة للطوائف والمذاهب عن نسجها. في علم الاجتماع، وبحسب دوركهايم، التضامن الميكانيكي بين الناس القائم على التشابه في ما بينهم لا يزال أقوى من التضامن العضويّ القائم على تقسيم العمل في المجتمع الكلي. 

ثانياً، طبيعة النظام السياسي تؤطر التجمعات والتحالفات السياسية على أساس مذهبي أو طائفي. في تاريخ نشأة الأحزاب السياسية في العالم، جرى رصد عاملين داخليين: الكتل النيابية واللجان الانتخابية. وقد نشأت الأحزاب نتيجة العلاقة بينهما في النظام الديمقراطي. اللافت غياب العاملين في ما يتعلق بنواب التغيير: فلا الكتلة النيابية الواحدة تشكّلت، ولا اللجان الانتخابية جرى تطويرها. على كلّ، العلاقة بين الكتلة النيابية واللجان الانتخابية هي رهينة النظام الانتخابي الطائفي والمذهبي، الذي لا يساعد على تشكّل كتل نيابية عابرة للمذاهب والطوائف.

هناك أيضاً عوامل خارجية ساهمت في نشأة الأحزاب على المستوى الوطني في العالم، من مثل النقابات والكنائس أو المرجعيات الدينية والإيديولوجيات والمقاتلين القدامى.

دور النقابات في تكوين الأحزاب معروف في أوروبا، خاصة في بريطانيا. لم يعرف لبنان محاولة جادة في هذا الاتجاه، رغم أنه جرى الإعلان عن "حزب العمال" من هنا وحزب عمال من هناك؛ إعلانات لم تتجاوز الإطلالة الصحفية. تأثير الكنيسة والمرجعيات الدينية عملت لصالح الأحزاب المذهبية والطائفية عندنا، في ظل عجز الأحزاب الإيديولوجية عن الصمود أمام العوامل المذهبية-الطائفية، والتحاقها بها في نهاية المطاف. أما محاولة العسكر تشكيل قوة سياسية عابرة للطوائف، ولا سيما مع نهاية الحرب، فلدينا تجربة حكومة عابرة للطوائف أيام ترؤس ميشال عون للحكومة الانتقالية، وقد كان نصيبها الانقسام، وقيام طرفها المسيحي بعد ذلك بإنشاء حزب مسيحي. يبقى أن "قدامى مقاتلين" قد أنشؤوا أحزاباً وطوّروها، على مثال "القوات اللبنانية" و"حزب الله"، لكن على أساس مذهبي وطائفي.

ثالثاً، البنية المجتمعية في منطقة المشرق العربي، والسياسات الإيرانية في الحقبة الأخيرة، عززت النزاعات والتقوقعات المذهبية، خاصة الشيعية-السنية، كما أن العولمة، وفي العالم أجمع، دفعت باتجاه التمسك بالهويات الدينية والإثنية. جميعها عوامل تلجم المبادرات السياسية الساعية إلى التغيير عبر تشكيلات سياسية على المستوى الوطني.

أمام هذه الوقائع التاريخية، على قوى "التغيير" أن تختار بين استراتيجيتين: استراتيجية تقليدية، معتمدة حالياً، تتعامى عن العوامل المجتمعية والسياسية في لبنان وتكرر أخطاءها ملقية اللوم على أصحابها، أو ابتكار استراتيجية جديدة تعترف بضرورة المرور بالمسالك اللامركزية للتغيير، مع محاولة الربط تنظيمياً ومركزياً، إذا أمكن، بين هذه المسالك، من دون إغفال أن مسألة التغيير اللامركزي داخل الطوائف والمذاهب تتبع مسارات مختلفة، بسبب التأثير المختلف في داخل هذه الطوائف والمذاهب، للعوامل العسكرية والدينية والاقتصادية والدينية والاجتماعية والثقافية، في عملية تشكيل النفوذ السياسي.

الأكثر قراءة

المشرق-العربي 10/8/2025 3:44:00 AM
أقدم شقيق النائب الأردني السابق قصي الدميسي على إطلاق النار من سلاح رشاش تجاه شقيقه عبد الكريم داخل مكتبه، ما أدى إلى وفاته على الفور.
اقتصاد وأعمال 10/7/2025 5:24:00 AM
سترتفع كلفة تسديد مفاعيل التعميمين من نحو 208 إلى 260 مليون دولار شهريا، بزيادة نحو 52 مليون دولار شهريا
لبنان 10/6/2025 11:37:00 PM
افادت معلومات أن الإشكال بدأ على خلفية تتعلق بـ "نزيل في فندق قيد الإنشاء تحت السن القانوني في المنطقة".
لبنان 10/7/2025 1:21:00 PM
 النائب رازي الحاج: ابتزاز علني لأهل المتن وكسروان وبيروت