التحدي الكبير إصلاح مالي ضمن احترام الدستور
المحامية ميرنا الحلبي
الاجتماع بين وزير المال اللبناني ورئيس بعثة صندوق النقد الدولي، أرنستو ريغو أتى في إطار الجهود المبذولة لإعادة ترتيب الأولويات المالية والاقتصادية، مع التركيز على الإصلاحات المطلوبة دوليًا، ولكن من المفترض أن يكون من منظور يراعي المصلحة الوطنية ويستند إلى أحكام الدستور اللبناني، الذي يكفل سيادة القانون وحماية الملكية الفردية، لا سيما فيما يتعلق بحقوق المودعين وأموالهم المحتجزة في المصارف. وتمثل هذه الإصلاحات تحديات قانونية وإدارية تستوجب تحقيق توازن دقيق بين الاستقرار الداخلي والالتزامات المالية الخارجية، مع ضمان الامتثال للمبادئ الدستورية والقوانين المالية النافذة.
إن أي إصلاح مالي أو اقتصادي يجب أن يكون منسجمًا مع الإطار الدستوري والتشريعي، بحيث يرتكز على مبادئ الشفافية، العدالة في توزيع الأعباء، وحماية الحقوق المالية للمواطنين. ومن هذا المنطلق، فإن الخطوات الإصلاحية لا ينبغي أن تكون مجرد استجابة لضغوط خارجية، بل يجب أن تُعتمد كجزء من المسؤولية الوطنية لمعالجة الأزمات الاقتصادية والمالية المتراكمة. وقد أعلنت الحكومة عن إعداد خريطة طريق للإصلاحات، ما يعكس مرحلة متقدمة من التخطيط، لكنها لم تصل بعد إلى اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي، مما يشير إلى أن المسار الإصلاحي لا يزال في طور التفاوض، مع التشديد على أهمية التدرج في تنفيذ التغييرات تفاديًا لأي تداعيات سلبية قد تضر بالاقتصاد الوطني أو الحقوق الفردية للمواطنين.
وفيما يتعلق بإعادة توجيه المساعدات والاستثمارات، فإن وضع برنامج تعاون رسمي مع الصندوق يُفترض أن يؤدي إلى استعادة ثقة المستثمرين، إلا أن التحدي الجوهري يكمن في مدى التزام الحكومة بتنفيذ الإصلاحات وفقًا للقوانين والتشريعات النافذة، مع ضمان حماية حقوق جميع الأطراف المعنية. ويبرز في هذا الإطار ملف حماية أموال المودعين، حيث أدت القيود المصرفية المفروضة منذ اندلاع الأزمة المالية إلى تآكل ثقة المواطنين بالنظام المصرفي. وبينما أعلنت الحكومة رفضها القاطع لفكرة شطب الودائع، فإنها أكدت التزامها بإعادة الأموال تدريجيًا، بدءًا من صغار المودعين، وذلك بما يحقق العدالة الاجتماعية ويحترم مبدأ حماية الملكية الفردية المنصوص عليه دستوريًا.
لكن يبقى التحدي الأساسي هو كيفية تنفيذ هذا الالتزام بطريقة تتماشى مع القوانين المالية، دون أن تؤدي إلى تضخم مفرط أو تآكل إضافي في قيمة العملة الوطنية. وهنا، يبرز الدور الحيوي للهيئة المستقلة المقترح تشكيلها للإشراف على إعادة هيكلة القطاع المصرفي وضمان الشفافية في الإجراءات المتخذة. على أن تتمتع هذه الهيئة بصلاحيات واضحة واستقلالية تامة، بما يتيح لها فرض معايير صارمة لمنع أي تجاوزات مالية أو ممارسات تضر بحقوق المودعين، مع مراعاة الالتزام بمبدأ سيادة القانون في جميع التدابير التي سيتم اتخاذها.
إن إعلان الحكومة نيتها وضع خطة بديلة عن الاتفاق السابق مع صندوق النقد يعكس توجهًا نحو تعديل الاستراتيجية الاقتصادية، لا سيما في ظل التغييرات المرتقبة في المصرف المركزي والقطاع المصرفي. ويقتضي هذا المسار تطبيق سياسات نقدية صارمة للحد من تقلبات سعر الصرف، وضمان الشفافية في إدارة الاحتياطات النقدية، وتحقيق رقابة أكثر فاعلية على العمليات المصرفية. أما على مستوى القطاع المصرفي، فمن المتوقع أن تشمل الإصلاحات إعادة هيكلة البنوك لضمان استمراريتها وتحسين أدائها، وتعزيز معايير الحوكمة الرشيدة لمنع أي تجاوزات مالية، إضافة إلى دراسة إمكانية دمج المصارف الضعيفة أو تصفيتها لتخفيف الضغط على القطاع، مع الحرص على أن يتم ذلك وفق الأطر القانونية التي تحمي حقوق جميع الأطراف المعنية
وتعتبر هذه الخطوات أساسية لتسهيل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، الذي يطالب بإصلاحات جوهرية قبل تقديم أي دعم مالي. لكن نجاح هذه الإصلاحات لن يتحقق إلا إذا توافرت الإرادة السياسية الحقيقية لتنفيذها، بعيدًا عن المصالح الفئوية التي لطالما شكلت عائقًا أمام التغيير الجذري. كما أن الحكومة تواجه تحديًا كبيرًا يتمثل في إعادة أموال المودعين دون الإضرار بالاقتصاد، ما يتطلب وضع خطة واضحة ومستدامة تعيد الثقة بالنظام المصرفي وتمنع أي إجراءات قد تنتهك حقوق الأفراد المالية.
وفي ظل تآكل ثقة المواطنين بالمؤسسات الرسمية، سيكون على الحكومة العمل بجدية لإقناع الشارع اللبناني بأن هذه المرة ستكون مختلفة، وأن الإصلاحات ستنعكس فعليًا على الوضع الاقتصادي. كما أن موقف صندوق النقد من التعديلات المقترحة لا يزال غير محسوم، حيث من غير الواضح ما إذا كان الصندوق سيقبل بتعديلات الحكومة أم سيصرّ على تنفيذ شروطه الأساسية كما هي.
وعليه، فإن الحكومة اللبنانية تسعى لتحقيق توازن بين تنفيذ الإصلاحات المالية والاقتصادية المطلوبة دوليًا، والحفاظ على الاستقرار الداخلي عبر ضمان حماية الحقوق الدستورية، وعلى رأسها حماية الملكية الفردية للمودعين، والالتزام التام بتطبيق القوانين والتشريعات المالية النافذة. إلا أن نجاح هذه الجهود لن يكون مرهونًا فقط بوضع الخطط، بل بمدى القدرة على تطبيقها ضمن بيئة تنظيمية شفافة ومستقرة، تحترم حقوق المواطنين وتعزز الثقة بالنظام المالي. وفي ظل هذه التحديات، يبقى الامل أن يتمكن لبنان من الخروج من أزمته عبر إصلاحات جادة تحترم القوانين والدستور، وان لا يبقى عالقًا في دوامة الأزمات نتيجة تعثر التنفيذ واستمرار الخلافات حول الأولويات الاقتصادية..
نبض