بعد ثلاثين عاماً... تجربة ووقفة تفكّر في القضايا الشائكة

الوزيرة السابقة وفاء الضيقة حمزة
رئيسة المجلس التنفيذي لمنظمة المرأة العربيةيدفعني الاحتفال بيوم المرأة العالمي هذا العام إلى وقفة تفكّر ومراجعة في قضايا النساء الشائكة والمتشعبة سواء في لبنان أم المنطقة العربية أم على المستوى الدولي. هذه وقفة تستند إلى تجربة طويلة منذ ما قبل المؤتمر العالمي الرابع للمرأة في بكين 1995.
أكثر من ثلاثين عامًا من العمل والمتابعة في الميادين السياسية والاقتصادية، في مناهضة العنف ضد النساء والفتيات، في التنمية المستدامة، في تعزيز القدرات المؤسسية على المستوى الوطني والريفي والإقليمي، في العمل الميداني والأكاديمي والبحثي، برزت خلالها قضايا متشعبة تطال جميع النساء والفتيات وتتقاطع مع الفئات الاجتماعية والجغرافية والعمرية المختلفة، وبينت أن قضية النساء هي سلسلة من القضايا المترابطة المتراصّة المتّصلة ببعضها الآخر ، وعند تحريك حلقة تؤثر في الحلقات الأخرى، فهي كلّ لا يتجزّأ ، وتحتاج معالجتها إلى مقاربة شاملة غير مجتزأة.
من هذا المنطلق ، تبنّى مؤتمر بكين 1995 مفهوم إدماج منظور المساواة بين الجنسين كأداة تنموية من شأنها جعل قضايا النساء والفتيات جزءًا أساسيًا في التيار التنموي، كما أكّد على اتخاذ التدابير الاستثنائية الخاصّة بالمرأة التي من شأنها التعجيل في تحقيق المساواة بين الجنسين، والتي نصّت عليها اتفاقية إلغاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة "سيداو" (CEDAW) لعام 1979. وقد توّجت هذه التوجّهات الدوليّة بأجندة التنمية المستدامة 2030، التي اعتبرت أن المساواة بين الجنسين شرط أساسي لتحقيق التنمية المستدامة، حيث اعتمدت أجندة 2030 مسارًا مزدوجًا في معالجة هذه المسألة عبر إدماج قضايا المرأة في جميع أهداف التنمية المستدامة، وكذلك عبر تخصيص الهدف الخامس لتحقيق المساواة بين الجنسين بحلول عام 2030.
لقد حقّقت هذه المسارات العالمية تقدّمًا ملحوظًا على صعيد التمثيل السياسي للمرأة، فشهدت العقود الأخيرة ازدياداً في مشاركة النساء في البرلمانات والحكومات على مستوى العالم. وفقًا للاتحاد البرلماني الدولي(IPU)، بلغت نسبة المقاعد التي تشغلها النساء في البرلمانات الوطنية 26.5% بحلول عام 2023، مقارنة بـ 11.3% عام 1995. كذلك شهدت بعض الدول تقدّمًا كبيرًا، حيث وصلت نسبة التمثيل النسائيّ في برلمانات دول مثل رواندا إلى 61.3%، ونيوزيلندا إلى 50%. أما على مستوى الحكومات، فقد بلغت نسبة النساء في المناصب الوزارية عالميًا نحو 22.8%، مع تصدّر دول مثل إسبانيا وفنلندا القوائم بتمثيل نسائي يقارب أو يتجاوز الـ 50%.
في لبنان، جهود كبيرة وإنجازات متفرّقة بدأت مع الحركة النسائية في الخمسينيات، واستمرّت مع تأسيس الهيئة الوطنية لشؤون المرأة اللبنانية كجهة رسمية (تأسّست بمرسوم في 1996، ولاحقاً بقانون 1998). لقد نجحت الحركة النسوية اللبنانية في انتزاع حق النساء بالعمل السياسي ترشحاً وانتخاباً (1953)، وبحريّة التنقل من دون إذن الزوج (1974)، وأهليتها للشهادة في السجل العقاري (1993)، وأهليّتها لممارسة التجارة (1994)، وإلغاء العذر المحلّ المتّصل بجرائم "الشرف" من قانون العقوبات (2011). وأثمرت الجهود الوطنية بإدخال تعديلات جوهرية على عدد من القوانين والتشريعات، أبرزها تعديلات قانون العمل ورفع سنّ الحضانة لدى بعض الطوائف، كان آخرها إصدار قانون حماية المرأة وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسريّ عام 2014، وقانون تجريم التحرش الجنسي في أماكن العمل والأماكن العامة عام 2020، وتعديلات نظام الضمان الاجتماعي. وقد ترافقت هذه التعديلات الجوهرية مع تبنّي استراتيجيات سياساتية ومؤسسية أتاحت فرصاً للنساء والفتيات لدخول مجالات عمل وميادين في الاقتصاد والسياسة كانت حتى الأمس القريب حكراً على الرجال، كما أبرزت الدور الريادي للنساء وإسهاماتهن الأساسية كرافعة للنمو والعمل المؤسسي والتنموي. ومع ذلك، لا تزال هناك حاجة لتعديلات أوسع، لا سيما في قوانين الأحوال الشخصية والجنسية والعمل وقانون العقوبات.
التحديات في لبنان لا تزال كبيرة وشائكة خاصّة في قوانين الأحوال الشخصية، وهي "التابو الأكبر"، وتخضع لأنظمة وقوانين 18 طائفة مختلفة، ممّا يجعل النساء يعانين من عدم المساواة في الزواج والطلاق والحضانة والإرث، إضافة إلى وضعهن في صراع أسريّ دائم حول قضايا الطلاق وحضانة الأطفال وتزويج الطفلات. وقائع مريرة تؤكّد أن حق النساء وأسرهن لا يمكن أن يستوي إلا بقانون مدني إلزامي للأحوال الشخصية يحقّق العدالة ويساوي بين اللبنانيين واللبنانيات في كلّ ما يتّصل بشؤون الأسرة والعلاقات الزوجية وأحوالهم الشخصية.
كذلك يشكل قانون الجنسية عقبة كبيرة أمام المساواة، حيث لا تزال المرأة اللبنانية غير قادرة على منح جنسيتها لأبنائها من زوج غير لبناني. وقد بقي تعديل هذا القانون عصياً بسبب الإرادة السياسية الرافضة لمساواة المرأة والرجل في هذا القانون، بحجج ديمغرافية وسياسية غير مقنعة تعكس قصوراً واضحاً في تحمّل مسؤوليّة وضع آليات ضابطة لسوء تطبيق القانون وتمنع أيّ محاولة لتوطين مبطّن مخالف للدستور.
أمّا التحدي الأكبر في لبنان، فهو مرتبط بالموروثات الثقافية والسلوكيات المجتمعية التي تمارس التمييز بين المرأة والرجل وتساهم في ترسيخ نظرة دونية إلى النساء، ممّا يؤدّي إلى عرقلة تحقيق المساواة الفعلية. هذه الموروثات تعكس سيطرة الذهنية الأبوية في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وتعيق مشاركة المرأة الفاعلة في مراكز القرار، كما تساهم إلى حدّ كبير في استمرار ظاهرة العنف ضد النساء والفتيات، على الرغم من التشريعات الحديثة، إذ يحتاج تطبيق هذه القوانين إلى آليات رصد ومتابعة فعالة، إلى جانب تعزيز الوعي المجتمعي حول مخاطر العنف القائم على النوع الاجتماعي. وهذا يستدعي تغييراً جذرياً في أسس التربية، ابتداءً من الأسرة والمدرسة، وتعزيز ثقافة المساواة في أماكن العمل وفي وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والمجتمع ككلّ، كما يستدعي تطبيقاً صارماً للقوانين، لا سيما قانون العقوبات، وقوانين محاربة العنف والتحرّش في أماكن العمل، إضافة إلى سنّ قوانين جديدة تحمي من التحرّش السيبيراني.
أما في مجال خدمات الرعاية غير مدفوعة الأجر، فهي لا تزال تُشكّل عائقًا رئيسيًا أمام العمل الاقتصادي للنساء ، حيث يتحملن العبء الأكبر من مسؤوليات الرعاية الأسرية. بيّنت دراسة حديثة أن 60% من الأمهات غير العاملات في لبنان يبررن غيابهن عن سوق العمل بمسؤوليات رعاية الأطفال.
بالمقارنة، تبنّت بعض الدول العربية مثل تونس والمغرب قوانين تضمن حماية أكبر لحقوق المرأة في الأسرة والعمل كما أن العديد من الدول الغربية، مثل السويد وكندا وفرنسا، اعتمدت سياسات لدعم الاقتصاد الرعائي والرعاية غير المدفوعة الأجر، من خلال إقرار إجازات أبويّة مدفوعة الأجر وتسهيل العمل المرن وتقديم حوافز لدعم توزيع مسؤوليات الرعاية بشكل أكثر إنصافًا بين الرجال والنساء.
إننا اليوم أمام عهد جديد وحكومة إصلاحية، وبالرغم من أولوية معالجة تداعيات الحرب المدمّرة على لبنان، لا يمكننا إهمال قضايا المساواة والعدالة للنساء. لقد أثبتت النساء اللبنانيات أنهن في الخطوط الأمامية لمواجهة الأزمات، ويستحققن قرارات جريئة من الدولة تبدأ بتنزيه القوانين والتشريعات من النصوص التمييزية، وتعزيز المشاركة السياسية للنساء، من خلال إقرار الكوتا النسائية في المجالس المنتخبة، وعبر تخصيص الصوت التفضيلي الثاني للمرأة في قانون الانتخابات البرلمانية كمرحلة أولى. إنها دعوة اليوم لإطلاق "عقد المساواة بين الجنسين" ودعوة للهيئات النسائية والمجتمع المدني والأحزاب لتوحيد جهودها وتكثيفها وتكوين كتلة حرجة لتحقيق جميع المطالب العادلة، فكلّ يوم هو يوم للنساء وحقوقهن.