عن ترامب... في اليوم العالمي للمرأة
إذا أردتَ ان تتكلّم عن البشاعة فتذكّر الجمال؟ لم أتقصّد ذلك في عنوان نصّي، لا سيما أن النساء المناضلات لا يحببن تسخيف النقاش حول قضيّتهن باختصارها بالمقارنة ما بين البشاعة –بشاعة الرجل الذكوري– والجمال –جمال المرأة المناضلة-. فالبشاعة والجمال صفتان استُخدمتا من النظام الذكوري لإبقاء النقاش على مستوى المظاهر التي تدعم في نهاية الأمر التمييز بين الجنسين.
لكنّني أردت فعلاً الكلام على صفات ترامب من خلال ما اعتبره نقيضه، أي القيم التي ترفعها الحركات النسائيّة. وقد اخترت "اليوم العالمي للمرأة" مناسبة للقيام بذلك، لحقن كلامي بشحنة غضب ملائمة. بالمقابل، لم أجد أفضل من ترامب نموذجاً للنظام الذكوري، لإيضاح خلفيّة القيم التي قام عليها "اليوم العالمي للمرأة".
أُقيمَ أولُ احتفال بيوم المرأة، والذي أطلق عليه "اليوم الوطني للمرأة"، في 28 شباط 1909 في مدينة نيويورك، ونظّمه الحزب الاشتراكي الأميركي، بناءً على اقتراح من الناشطة تيريزا مالكيل. منذ البداية ارتبط الاحتفال بيوم المرأة بالاتجاه الاشتراكي، وذلك قبل اعتماده يوماً عالمياً للمرأة من قبل الأمم المتّحدة سنة 1975.
ليس مطلوبًا مع ترامب أن نترحّم على الأنظمة الاشتراكيّة. فالرأسماليّة صحّحت نفسها، نتيجة النضالات العمّاليّة واليساريّة، وأصبحت أكثر عدالة بالنسبة إلى العمّال والفقراء بشكل عام، من خلال كسر شوكة الرأسمال وإعلاء شأن الإنسان والعمل، وتطبيق مروحة من الحقوق والإجراءات في إطار مفهوم العدالة الاجتماعية، فإذا بترامب يعيد التاريخ إلى الوراء، ويجعل من المال والرأسمال مجدّدًا القيمة العليا على حساب الإنسان وحقوق الشعوب، أكان ذلك في غزة أم في أوكرانيا وغرينلاند وبنما.
ترافقت التظاهرات النسائيّة المختلفة بيوم المرأة، وقبل اعتماده يوماً عالمياً، مع المطالبة بالخبز والحق بالتصويت والسلام، ما قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية وما بعدهما.
للأسف، قسم كبير من عمّال أميركا وفقرائها انتخبوا ترامب الرأسمالي الجشع المتحالف مع الرأسمالي الأكبر إيلون ماسك. 45 % من النساء الأميركيات انتخبن ترامب، الذي حوّله النظام الرئاسي الأميركي إلى ديكتاتور يصدر "الأوامر" في شتّى القضايا ومن دون رادع. ومن "الأوامر" ترحيل العمّال المهاجرين الفقراء الذين يبحثون عن الخبز خارج بلادهم. أمّا السلام فيريد أن يحقّقه ترامب في العالم من خلال قاعدة "استسلم أو أقتلك"، أو ما يعرفه سكان الشرق الأوسط بـ"سلام الاستسلام". ترامب يستخدم كلمة "صفقة" بدلاً من "الاتّفاق" بين الدول؛ والصفقة تُحسب معادلاتها بالمال، لا بالقانون الدولي ولا بالحقوق ولا بالأخلاق.
تنوّعت مطالب الحركات النسائيّة عبر الزمن، وتركّزت أكثر على القضايا الجندريّة والمساواة بين الجنسين وحريّة التصرّف بالجسد وبعمليّة الإنجاب. وفي جردة لبعض القضايا التي رفعتها الأمم المتّحدة سنويًّا، بمناسبة "اليوم العالمي للمرأة"، نقرأ: المساواة الجندريّة، النساء في عمليّة اتّخاذ القرار، النساء والرجال معًا لوقف العنف ضد النساء، حقوق متساوية/ فرص متساوية، المساواة في الحصول على التعليم والتدريب والعلم والتكنولوجيا، تمكين المرأة/ تمكين الإنسانيّة، المرأة في المراكز القياديّة.
في سنة 2024، كانت القضيّة المرفوعة من الأمم المتحدة هي: "استثمر في النساء". لا أعرف كيف تسلّل هذا التعبير الاقتصادي - الربحي إلى عالم المساواة الجندرية، وكأن إقناع الآخرين بهذه المساواة يتطلّب إقناعهم أولاً بأن هذه المساواة مربحة اقتصاديأ، مع أن مبدأ المساواة الجندرية يقوم على مبدأ المساواة بين جميع البشر، وفق ما نصّ عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. يبدو أن الترامبية ليست محصورة بترامب، وقد دخلت من الباب الواسع إلى أروقة الأمم المتحدة.
عُرف عن ترامب أنه معنِّف للنساء: رُفعت ضدّه أكثر من دعوى اغتصاب و12 دعوى تحرّش جنسيّ. يترافق ذلك مع ترويج ترامب وفريقه للقيم الدينيّة والعائليّة المحافظة، التي يستمدّ منها حججه في لجم النزعة الليبراليّة التحرّريّة في أوساط الكثير من النساء الأميركيات، والتي أدّت الى اكتساب بعض الحقوق مثل الحق بالإجهاض والحق باختيار الميول الجنسيّة وبإجراء تحوّل في الطبيعة الجنسيّة للشخص.
ترامب شدّد في حملته الانتخابيّة على انتقاد المتحوّلين جنسيًّا، وعلى ضرورة وقف هذا النوع من العمليات، وطرد المتحوّلين جنسيًّا من بعض المؤسّسات، خصوصًا من الجيش. يمكن للمرء أن يتّفق مع ترامب أو أن يخالفه الرأي بشأن الحق بـ"التحوّل جنسياً"، من منطلقات متعدّدة، دينية أو فلسفية أو بيولوجية أو نفسية أو أنتروبولوجية، لكنّني أعتقد أن ما يغذّي نقمة ترامب على المتحوّلين جنسيًّا ليس مخالفتهم لما يسمّيه بــ"الطبيعة البشريّة"، التي -وفق ما يقول- خلقتنا رجلاً أو امرأة، بل لكون المتحوّل جنسيًّا يجمع في آن واحد بين الرجولة والأنوثة، وهو ما لا يتقبّله ترامب لا عند الرجل ولا عند المرأة، وهو الذي يريد أن يحافظ على صورة الذكوريّة الصافية.
عندما شاهدت زوجة ترامب في حفل تنصيبه رئيسًا، وهي ترتدي القبّعة التي تحجب عينيها، وجدت نفسي أتساءل عفوياً إن كانت هي من اختار وضع القبعة بتلك الطريقة كي لا تراه، أو أنه هو من طلب إليها وضعها حتى لا يراها أحد.
في هذا النص الذي تنقلت فيه بغصّة بين صفات ترامب وقيم "اليوم العالمي للمرأة"، توخيت الذهاب أبعد من المقارنة، محاولاً الدفع باتجاه الاعتقاد بأن لا أوروبا ولا الصين ولا مجموعة "البريكس" يمكنها أن تلجم الخطر الذي بات يشكّله ترامب على القيم الإنسانيّة وعلى السلام في العالم، بل إن الحركات الاجتماعيّة الأفضل لمناهضة قيمه هي الحركات النسائيّة في العالم أجمع، لأنها وحدها التي تحمل قيمًا مناقضة تمامًا لما يمثّله. وهنا نواجه تحدّياً آخر فاقم من تأثيره ترامب وأمثاله، ألا وهو القدرة على عولمة النضالات من أجل الحقوق الإنسانية، بعد تفشّي النزعات "الوطنية الحمائية" وما يرافقها من مواقف عنصرية، وهي ما يروّج لها ترامب واليمين المتطرف الأوروبي.
نبض