* باحث في مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيّات في واشنطن

في كواليس قناة "العربية" في دبي، جلسنا نرتشف القهوة في غرفة الضيوف - الإيراني مصدق بور، والجزائري خالد بن ققة، والصديق اللبناني مكرم رباح، وأنا - وبدأنا نقاشاً حول الحلقة التي كانت مشاركتنا مقرّرة فيها وكان عنوانها "مفهوم المقاومة".

افتتحت حديثي أنّ من يدّعون المقاومة قلّما يحصرونها بالمسلّحة، التي يعتبرونها تتمة لمقاومة فكرية وثقافية، وأشرت إلى كتاب أمين عام "حزب الله" نعيم قاسم "دولة المقاومة"، والذي يدعو فيه إلى تحويل لبنان من "جسر بين الشرق والغرب" إلى جمهورية منخرطة في محور مستضعفي العالم في وجه الاستكبار العالمي. حسب هذا الفكر المستوحى من إيران الإسلامية، تتحوّل المقاومة من أداة لتحقيق مصالح شعوبها ورفاهها إلى هدف قائم في حدّ ذاته، ودائم، وأسلوب حياة.

ثمّ دخلت علينا معدّة ومقدمة البرنامج، التونسية ريم بوقمرة، ولاحظت أننا غصنا في نقاش فكري لا يصلح لاثنين وخمسين دقيقة تلفزيونية، هي طول حلقة "ساعة حوار"، فعملت على إقناعنا أن هدف الحلقة معالجة الأحداث الآنية، لا التفرّع في نقاش معقد يتطلب أياماً، بل أسابيع. وهكذا كان.

جلسنا أمام الكاميرات، وبدا واضحاً التباين بين مؤيدي المقاومة ومعارضيها. عند بن ققة العروبي، علّة وجود الدول العربية هي التصدّي للغرب الإمبريالي الظالم، وهو ما أظهره تأييده للسلاح خارج الدولة في حالة ميليشيا حماس الإسلاموية، ومعارضته لهذا السلاح في أيدي السوريين الذين انتزعوا الحكم من أيدي بشّار الأسد، لاعتقاده أن المليشيات السورية الإسلاموية تعمل بإمرة تركيا ودولة غربية. أمّا مصدق بور الإسلاموي، فنموذجه الإيراني مصمّم لإقامة جبهة إسلامية تسمح لطهران بالزعامة على العرب، ولكنّها جبهة تحتاج إلى علّة وجود، إذن القضاء على إسرائيل غير المسلمة، ومن خلفها راعيتها إيران. لا يهمّ أنّ إيران الإسلامية تتحالف مع أرمينيا المسيحية ضدّ أذربيجان المسلمة، لكن هذا مبحث آخر.

أمّا مداخلاتنا، رباح وأنا، فتركزت حول نفاق "المقاومة"، التي تستخدم سلاحها للتغلب على الداخل، ثمّ تختبئ خلف الداخل في أيّ حرب ضدّ الخارج، فتنجو المقاومة ويموت من كان يفترض أنّها تدافع عنه. وقال مكرم أنّ المقاومة والحرب هما وسيلة للتوصّل إلى سلام، وأنه لا يمكن للمقاومة أن تكون هدفاً قائماً بذاته، فيما أشرت أنا إلى سلاح المقاومة الذي يرمي درونات مفخّخة، بعضها من العراق على إسرائيل وبعضها الآخر يستهدف فيها منزل رئيس حكومة العراق السابق مصطفى الكاظمي، في محاولة اغتيال نجا منها لحسن حظّه.

انتهت مداخلتنا، واستقللت سيارة أجرة إلى مطار دبي. السائق بنغالي سألني عن هويّتي: لبناني عراقي أميركي أسكن واشنطن. تمنى لي رحلة سعيدة على متن خطوط الإمارات، وخطّ رحلاتها هذا يكتظّ عادة بالهنود، نظراً لموقع الإمارات كصلة وصل قارية على الطريق بين الهند وأميركا الشمالية. أرباح النقل الإماراتية هذه تساهم في نمو الاقتصاد، الذي يجذب كفاءات من عموم الكوكب، فتصبح دبي وأبوظبي من عواصم العالم.

في رحلة عودتي إلى واشنطن، عثرت على فيلم إسرائيلي اسمه بالعبرانيّة "ها سيبور شيه لانو" أي "قصتنا"، أحداثه تدور حول منتج أغانٍ ينحدر من عائلة ثرية يقع في حبّ معلمة موسيقى في مدرسة ثانوية. الفيلم يشبه أيّ فيلم هوليوودي. موضة ثياب الناس أميركية، وكذلك تصرّفاتهم، والناس تبحث عن القهوة صباحاً، وكلّ لديه صديق مقرّب يشي له أو لها بأسراره وهمومه، غالباً في مطعم في أوقات الظهيرة أو مع كأس في بار مسائي. أمّا الأهم، فكانت خلاصة الفيلم القائلة بأنّ على كلّ منّا أن يعثر على سعادته، بعيداً عن إملاءات العائلة والمجتمع، وأن يطارد أحلامه ويسعى إليها. وفي النهاية لا يصح إلّا الصحيح، وينتهي الفيلم بقبلة بين العشيقين تعلن فتح صفحة جديدة تنهي الخلافات بينهما التي غيرّت كلّاً منهما نحو الأفضل.

عدا عن لغة الممثلين العبرانية والإشارة إلى الموازنة التي خفّضها وكيل وزارة التربية، لا يوجد في الفيلم الإسرائيلي أيّ إشارة إلى السيادة اليهودية، ولا إلى أرض إسرائيل، ولا إلى علمها، ولا إلى المستوطنات، ولا إلى أمن غلاف غزّة أو الشمال. الخلاصة الرئيسية في إسرائيل - كما في باقي العالم - هي الحرية الفردية (ليبرتي).

في عالمنا المعولم، الوطن هو بعض الخصوصية الثقافية في اللغة والمآكل والعادات وبعض الموسيقى، وحنين إلى المنزل الأوّل. عدا ذلك، الحكومات وسيادتها صارت مواضيع إدارية متشابهة ورتيبة، وغالباً تنقل الحكومات أساليب حكمها عن بعضها بعضاً، وتتنافس جميعها للانخراط في الاقتصاد المعولم.

تاريخ البشرية يعمل مثل السوق: بعض العادات والتقاليد تروّج وغيرها يندثر، كلّها حسب ذوق الناس واختياراتهم. قبل ثلاثة آلاف عام، كانت الآرامية لغة الكوكب (لينغوا فرانكا)، وكان يتراسل بها حكام شعوب لا يتحدّثونها، من وادي النيل إلى العراق فبلاد فارس. وعلى مدى التاريخ، نقلت الشعوب علومها عن بعضها بعضاً، سلماً بالتجارة، وحرباً بالاستعمار، وانصهرت معظم الثقافات في تراث إنساني نهلت منه كلّ الحضارات، وتداورت على قمّة المعرفة والاقتصاد على مدى العصور.

لكلّ زمان مقاومون ضدّ التحديث يعتقدون أنّ القديم هو الأصالة، وأنّ استعارة الأفضل من ثقافة الآخرين هي هزيمة لثقافتنا أو تقاليدنا أمام ثقافة الآخرين وتقاليدهم، وهذا غير صحيح، لأنّ أميركا، المهيمنة بالمعرفة والاقتصاد والثقافة، استوردت - وما تزال - كلّ ما تعرفه، ثمّ بنت عليه وحسّنته وأعادت تصديره، ومثلها فعلت الأمبراطوريات الإسلامية قبلها، فترجم الآراميون السريان العلوم من اليونانية إلى العربية، وبنت أوروبا نهضتها بترجمتها العلوم من العربية إلى اللغات الأوروبية.

"المقاومة" تعني المعاندة، والسير عكس عجلة الزمان، ورفض التجديد، ومعارضة الاندماج في التراث العالمي والاقتصاد المعولم، إذ بدلاً من محاولة فصل تقاليدنا وتراثنا عن العالم، قد يكون من الأجدى إدخالها في التراث العالميّ، فنتعولم، ولكن حسب أذواقنا، وبما فيه سعادتنا وفائدتنا. ثمّ، بدلاً من احتكار تراثنا وتحويله إلى حدود تميّزنا عن الآخرين، الأجدى بنا أن نعولم تراثنا، فنفيد العالم بما لدينا ونستفيد بما لدى العالم.

الصديقة ريم بوقمرة كانت محقّة. يصعب نقاش موضوع معقّد كهذا في حلقة تلفزيونية، لكن هذا لا يعفينا من مسؤولية مناقشته في مراكز أبحاثنا، وفي جامعاتنا، وفي ودراستنا، وحتّى في مقاهينا وصالوناتنا.