هل يمكن بناء هويّة سوريا الجامعة مجدّداً؟

شفان إبراهيم
سقط النظام السوري، لتنقلب آية "الأبد"، فتُصبح سوريا بلا أسد وللأبد. الوقت يمضي وما زالت الفرحة والنشوة مُسيطرتين علينا كسوريين، لتظهر هنا وهناك دعوات وخلافات على قضايا تمسّ جوهر حيوات مستقبل البلاد؛ على أمل أن تكون هويّة سوريا الجديدة واضحة للسوريين، حيث يقول البعض إن هويّتها هي هويّة الثورة، بما رُفع من شعارات ورموز عُمل بها خلال العقد الماضي. ورُبما هو أمر يحتاج إلى التروي، فإن كانت الثورة هي الإطار الجامع الذي لمَّ شمل السوريين كفعل وحدث وأهداف وانتماء، فإن شعاراتها ورموزها ومراحلها لم تشهد ذلك التوافق، بل إن التطلعات المشروعة اليوم تختلف من منطقة إلى أخرى، ومن مكوّن إلى آخر، وتشكل عقود الاستبداد والإلغاء، الحامل الجمعي للمخاوف المستقبلية، وأبرز مُحددات وضوح مستقبل البلاد، هو وضوح الهويّة السورية.
استعجال مُبرّر
تسارع السوريين إلى التفرد بإعلان جوانب من هويّة سوريا الجديدة، يحمل مؤشرين: الرغبة في الخلاص من إرث الماضي، ومخاوف من عودة التفرّد مُجدداً. ورغم أن ما يُثار حالياً من علم الثورة وقصيدة عمر أبو ريشة كنشيد مستقبلي للبلاد، لا تحمل ضغائن أو أحقاداً تجاه أحد أو من أيّ طرف، فإن الطرح خارج السياق القانوني والتوافقي، أمر خارج عن المنطق، رغم أن أحداً لا يملك حق منع الناس من التعبير عن الرأي، تماماً كحالة الانقسام بين علمانية أو مدنية الدولة أو أسلمتها أو ما بين المركزية واللامركزية، وكل تلك القضايا هي من حق المتدينين والعلمانيين والمحافظين والعسكريين والليبراليين، والكرد والعرب والأشوريين والتركمان، أي إن هويّة سوريا المستقبل ليست حكراً على فئة أو ملة لتطرحها وتجعل منها أرضية للنقاش دون غيرها، بل هي مطروحة للنقاش والجميع متلهف لمعرفة هذه الهويّة والابتهاج بها، مع الأخذ في الاعتبار أن الجانب السياسي للتعريف الهويّاتي بغالبيته مؤجل إلى حين توضّح المرحلة الانتقالية، مع التحفظ على النشيد والعلم هل سيكونان من البديهيات.
الانطلاقة للتشييد الهويّاتي
البدء بتشييد هويّة سوريّة جامعة، يتطلب عدم اعتبار العلم والنشيد المطروح من البعض، على أنها هويّة سورية كُلها، بل هما، رغم قداستهما، أقل قيمة وأهمية أمام القضايا المصيرية الأخرى التي تُعدّ الأكثر تعبيراً عن الهويّة، وخاصة أنها ستكون جوهر التوافق أو الصراع السياسي للمرحلة المقبلة مثل شكل الحكم، والموقف من الحريات العامة والديموقراطية، موقع الدين في القرار والحكم، وهيكلية الدولة ونظامها السياسي. وهل كل ذلك ممكن ما لم يقدم كل طرف سوري مقومات الوصول إلى الهويّة المطلوبة؟ التغيير الذي يُصادف السوريين اليوم وغداً، هو أن من يحكم سوريا حالياً كان يُسمى قوى أمر واقع قبل سقوط الأسد، وانقسم السوريون بينها، سواء هيئة تحرير الشام، الإدارة الذاتية وقسد، والحكومة السورية المؤقتة، حيث كُلهم كانوا فواعل ما دون الدولة، لم تنل الرضى العام، بل إن نسباً شعبية ساحقة كانت تعترض على سياساتها وممارساتها. لكن التغير حصل لدى هيئة تحرير الشام فقط التي تحولت إلى فاعل رئيسي دولتي، وتسارعت الدول المتداخلة في الشأن السوري لإرسال وفودها ووزراء خارجيتها، للدعم وللسماح بإشراك أطراف وإقصاء أطراف أخرى من العملية السياسية والفترة الانتقالية، هذا إن لم يكن منع المشاركة في مرحلة الاستقرار أيضاً.
إذن من تفوق، بغضّ النظر عن الآلية ومساندة الفاعلين الدوليين والإقليميين، هو هيئة تحرير الشام، ومن انحسر نفوذه وقدراته في المواجهة السياسية وفقاً للمعطيات وتغيير موازين القوى هو "قسد" والحكومة السورية المؤقتة، وغالباً الائتلاف السوري المعارض أيضاً. وهو ما يدفع للقول إن الأطراف كُلها مُلزمة بتقديم المرونة والتوافق للوصول إلى هويّة سورية جامعة، وخاصة أن الغالبية العظمى تصارعت في ما بينها سابقاً، المعارضة وقسد، قسد والمجلس الكردي، المجلس الكردي والمعارضة، المعارضة وهيئة تحرير الشام، هيئة تحرير الشام وأطراف من الفصائل العسكرية ضمن "الجيش الوطني السوري"، والصراع والمعارك بين هيئة تحرير الشام وفصائل المعارضة ضد النظام السوري، لنجد أن سوريا الحالية تحولت إلى دولة فاقدة للعدالة، وتغيير ديمغرافي في مجمل الجغرافيا السورية، القتل العمد، والإبادة والثأر، وصولاً إلى انعدام الثقة بين مكونات الدولة والهويّة السورية، وكل هذه يجب أن تكون هويّة مؤقتة.
مظالم شكلت هويّة نفسية وتعريفية
وكتعريف هويّاتي لسوريا سابقاً، فإن السوريين كُلهم ظلموا، وللأمانة فإن العدالة الوحيدة في حكم الأسد، هي توزيع الظلم على الجميع، وإن بنسب متفاوتة. وسوريا منذ عهد الاستقلال هي مظالم تاريخية كثيرة، لكن في سوريا أكبر مظلمتين في السنوات الأخيرة، وتطغيان على باقي المظلمات، هما الكرد والإخوان المسلمون، ولكلّ منهما ما ميّزه عن سواه، لكنهما اشتركا في مخاوف من خطر الإبادة الجماعية بطرق مختلفة؛ ليس بسبب المعارضة للنظام وحسب بل على خلفية هويّتيهما. فارتكب النظام السوري مجازر بحق الإخوان المسلمين في حماه منذ 1982، ونُظر إليهم على أنهم العدو الأول للدولة والنظام، وانتقم منهم بكل وحشّية، وللأمانة التاريخية فإن سنوات الثورة السورية، كانت تشهد تركيز المقتلة السورية الأكبر على المكوّن السنّي من ناحية الإبادة والبراميل المتفجرة والصواريخ المدمرة، في المقابل تعرّض الكرد لإلغاء مماثل وإجرام كبير من جميع الحكومات المتعاقبة على سدة الحكم في سوريا بدعم وتوجيه من النظام نفسه، وسعت القرارات والمراسيم للقضاء على الكرد، وفصلهم عن الوسط السوري، والحياة، والوظائف، ونسف الوجود الهويّاتي عبر حصار اللغة والثقافة والتعليم.
والمؤسف أكثر أن قسماً من معارضي النظام، حملوا معول هدم هويّة كرد سوريا، وما خُطب قسم من فصائل المعارضة سوى دليل على ذلك. بالإضافة إلى مظلومية المعتقلين السياسيين السوريين وسنوات المعتقل والانفراديات الطويلة.
قوة عسكرية مختلطة لتشكيل هويّة جديدة
سورياً اليوم، ثمة أربع قوى عسكرية مدرّبة، إحداها لم تنل بعد بطاقة العبور وهي بشمركة روج آفا التي تشكلت من المنشقين عن النظام السوري، لرفضهم قتل السوريين المحتجين، وتتخذ من كردستان العراق مكاناً مؤقتاً لها، حاربت "داعش" والحشد الشعبي في إقليم كردستان العراق، وتُشكل واحدة من أبرز وأعقد القضايا الخلافية بين "قسد" والمجلس الكردي في حواراتهم. والأخرى قوات سوريا الديموقراطية التي تسيطر على مساحات مُهددة بفقدانها، إضافة إلى فصائل المعارضة السورية في درعا والشمال الغربي التي لا يُمكن الحديث عنها كقوة مُنظمة منضبطة، دُمجت أخيراً، ورابعة القوى هي تحرير الشام التي تُمثل حالياً العصب المركزي للقوة الأمنية والعسكرية في سوريا، والتي شكلت "وزارة الدفاع السورية" خلال الأيام الماضية من جميع القوى العسكرية في سوريا، ما عدا "قسد" التي سارعت للإعلان عن رغبتها في الانضمام للجيش السوري، لكنها لم تتلق الرد، وغالباً لن تتلقى قبل تغيّر السياسات وسلوكيات الإدارة الذاتية وعلى رأسها الخلافات مع مجمل الأطراف السورية والكردية، علماً بأن لمّ شمل جميع القوة العسكرية السورية في إطار منظم ومقونن ستكون له الكلمة الكبرى في تشكيل هويّة سوريا الجديدة.
إن بناء الهويّة السورية الجديدة يجب ألا يركز على هل سيكون شعار الدولة هو العُقاب أم النسر أم الصقر، هل علم الثورة وقصيدة أبو ريشة أم غيرهما؛ بل ثمة أهم ثلاثة عناصر في بناء الهويّة السورية، وهي الجيش والأمن، النظام السياسي، والحالة الدينية. فالوجود الكردي (بشمركة روج وقسد بمكوناتهما وهويّاتهما السورية الواضحة) في المؤسسات الأمنية والعسكرية إلى جانب وزارة الدفاع الحالية، بالإضافة إلى باقي الأقليات من دروز ومسيحيين وعلويين، سيعني ضمانة واضحة بخلق سدود أمام عودة الهويّة الأحادية والملغية للهويّات الأخرى، ودليل التوازن بين التيارين الرئيسيين في سوريا، وهما عصب الخلاف والصراع الهوياتي المُستقبلي، ما بين قوانين شرعية ونفاذ كبير للدين في هويّة الدولة وقوميتها وعروبتها، وما بين تيار اللامركزية والمدنية أو العلمانية والتعددية السياسية والدينية، بل سنكون أمام عمل عميق تقوم به الدولة لبناء مؤسسة عسكرية بهويّة جامعة، وليس جيشاً يُشكل دولة بهويّة أحادية، وإن أرادت "قسد" أن تكون لاعباً أساسياً في معادلة بناء الهويّة السورية المقبلة، فإن من بين ما يجب عليها التخلي عنه "سياسة التفرّد بكل شيء"، خاصة أن "هيئة تحرير الشام" تتلقى المزيد من الدعم وعلى رأسها محاربة الإرهاب، ولم تعد ورقة خاصة "بقسد" فقط، كما أن أحمد الشرع لم يتبنّ حتّى اللحظة خطاب تركيا والمعارضة السورية في تعامله مع "قسد" ولم يصفها بالإرهاب كما فعل الآخرون، والمرونة التي تحملها الحكومة السورية، يُمكن الاستفادة منها كثيراً.
تقزيم هويّاتي بالجملة
في المنطقة الكردية، ظُلم الكرد كثيراً ونالوا حصة الأسد منها ودفعوا فواتير باهظة، لكن العرب والآشوريين أيضاً لم يكونوا في رخاء واستقرار؛ فلم يقتصر التهميش بالإقصاء من السلطة ومنع شراكة تلك المكونات في صناعة القرار السياسي والعسكري، بل الكارثة التي لحقت بالهويّة السورية أن بعض النخب السورية والمدن الرئيسية في سوريا، بقيت تنظر إلى قامشلو وعامودا وديرك والحسكة على أنها حواضن ريفية وأحزمة فقر وفي أحسن الأحوال مُدن نائية، وما رافقها من خطاب تنميط وفوقية واستعلاء، مقابل نظرة دونية على أنهم بلا ثقافة ولا فكر ولا أحقية في الانخراط ضمن الهويّة الجامعة سواء سياسياً، أو عبر الفن والثقافة والأدب وغيرها، وما حرمان المنطقة من بناء جامعات ودراسات عليا ومنع اللغات غير العربية إلا دليل على جميع محاولات إنهاء الوجود الهويّاتي للمنطقة كُلها. ورغم سيولة الرسائل التي صدرت عن شخصيات ونُخب قيادية في الحكومة السورية الحالية، وعلى رأسها أحمد الشرع والتي يُمكن البناء عليها، لكن الكرد وباقي المكونات ينتظرون تحويل تلك الخطب إلى لغة الأفعال والخطوات العملية.
بالمختصر، توازن القوى والقوميات وكل السوريين، ضرورة قصوى، ولا مُشكلة في الأشهر الثلاثة المقبلة، بما أنه لا قرارات استراتيجية ستُتخذ، من الممكن أن تُخلق مخاوف بسوريا التي نحلم بها. الأكثر أهمية هو التغيرات التي يجب أن تتحقق في شكل الدولة واسمها ورموزها، وبعد أكثر من نصف قرن على الحكم الأحادي، لا قبول للعودة إلى تفرد جهة واحدة فقط ببناء الهويّة السورية الجامعة، لا شروط ولا فيتو على أيّ طرف سوري.
*المواقف الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة "النهار" الإعلامية